لغات عاربة وليس لغات سامية
د.عبدالوهاب محمد الجبوري (*)
تنويه / تحدثت عن هذ الموضوع اكثر من مرة ولكن صيغته النهائية هي الواردة في ادناه ومن يرغب بالحصول على المراجع يمكن الرجوع للباحث .. مع الشكر والتقدير
***
مقدمة في نشوء اللغات
بداية نشير إلى انه مرت أزمنة طويلة إلى أن وصلت ألينا اللغة بشكلها الحالي ، فهي بهذا مرتبطة بنشوء الإنسان وعمره في هذه الأرض ، لكن الذي يعنينا في هذا الشأن هو الإنسان الذي نشأ وعاش في جزيرة العرب وأطرافها وفي ساحل أفريقيا الشرقي ، في حقبة معينة من الزمن وكون لغة واحدة أصلا .. ولما كثر المتحدثون بهذه اللغة وتفرقوا نشأت ألفاظ وتعابير جديدة لدى كل فئة ، ونظرا لأن الناس يتباينون في صفاتهم العقلية والجسمية ، ومن ذلك التفاوت في نطق الأصوات بين إنسان وآخر لتفاوت بعض صفات أعضاء النطق ، أو لعيوب فيها نشأت من اللغة الأولى لهجات .. وبمرور الزمن ولاختلاف البيئة والحاجات بين مجموعة وأخرى نشأت اللغات من تلك اللهجات وأصبح التفاهم بين كل مجموعة وأخرى عسيرا ، ثم متعذرا ، وسنلتزم هنا بهذا الفرق بين اللغة واللهجة ، فأصحاب اللهجات المختلفة يمكن أن يفهم بعضهم بعضا ، وبخلاف ذلك أصحاب اللغات المختلفة .. وهكذا فان اللغة مرت بثلاث مراحل : لغة – لهجة – لغات ..
وحسب هذا النظام يتواصل نشوء اللهجات من اللغات ومنها لهجات ، تارة أخرى ، ثم لغات وهكذا .. أما الآن ، وبعد أن ظهرت الكتابة وانتشرت وأخذت الأمم والشعوب تعتز بلغاتها وتراثها ، فقد توقف هذا التوالد أو كاد ، وكلما عدنا إلى الوراء تضيق أوجه الخلاف إلى أن تصل إلى اللغة الأولى ، فالتطور بهذا المفهوم هو هرمي .. اللغة الأولى في القمة واللهجات واللغات تتوزع في الأضلاع بانفتاح إلى القاعدة ..
فصائل اللغات الانسانية
وقد دأب الباحثون اللغويون منذ القرن التاسع عشر على تقسيم اللغات الإنسانية المعروفة إلى عدد من الفصائل اللغوية التي تجمع كل فصيلة منها أوجه شبه صوتية أو نحوية وصرفية ومعجمية ترقى إلى درجة القرابة ..
وكان أكثر الآراء شيوعا هو تقسيمها إلى ثلاث فصائل رئيسة تأتي في مقدمتها فصيلة أو عائلة اللغات الهندية - الأوربية من حيث عدد المتكلمين بها ، حيث ضمت جميع اللغات الأوربية الإغريقية واللاتينية والجرمانية فضــلا عن اللغات الهندية والإيرانية ..
أما الفصيلة الثانية فكانت تسمى بفصيلة اللغات السامية – الحامية أو الافرو- أسيوية أو السامية الإفريقية ، وتضم اللغات السامية واللغة المصرية القديمة واللغات التشادية والبربرية والكوشية .. أما فصيلة اللغات الثالثة فهي الطورانية وتضم جميع اللغات الإنسانية الأخرى التي لا تنضوي تحت أي من الفصيلتين السابقتين كاللغات التركية والمغولية واليابانية والكورية والصينية والتبتية والقوقازية وغيرها ، جاء جوازا ذلك لأنها ، كما يقول الدكتور عامر سليمان في كتابه ( اللغة الاكدية ) ، لا ترتبط بعضها ببعض بصلات وروابط تشير إلى قرابتها ، كما أن هناك بعض اللغات البشرية التي لم توضع ضمن هذه الفصيلة ، لذا فقد عمد الباحثون في الفترة المتأخرة إلى اقتراح تقسيم أدق فيما يتعلق بالفصيلة الثالثة وقسموا اللغات خارج الفصيلتين الأولى والثانية إلى تسع عشرة فصيلة أو عائلة ..
وتؤلف مجموعة اللغات العاربة ( السامية ) مجموعة مستقلة من اللغات ضمن الفصيلة الثانية من الفصائل اللغوية المذكورة آنفا ، ولها خصائصها المميزة مع الاعتراف أن هناك علاقة لغوية قديمة بينها وبين اللغات الأخرى ضمن الفصيلة الثانية ذاتها ، لذا فإنها تمثل عائلة لغوية فرعية ضمن العائلة الرئيسة المسماة بالافرو – أسيوية ..
وقد اصطلح الباحثون اللغويون على تقسيم اللغات العاربة نسبة إلى أماكن انتشارها وان اختلفوا أحيانا في تفاصيل كل تقسيم .. وسنأتي على هذا بعد قليل ..
تسمية اللغات السامية
أما تسمية اللغات السامية بهذا الاسم فهي تسمية لا تستند على أساس رصين من الواقع التاريخي .. ويعتبر المستشرق النمساوي شلوتزر أول من أطلق في أبحاثه سنة 1781 ميلادية مصطلح الساميين على تلك الأقوام لتشابه لغاتهم ، وذلك بناء على ما جاء في شجرة الأنساب في الإصحاح العاشر من سفر التكوين من العهد القديم ، من أن تلك الأقوام تنحدر من سام ، وهو احد أبناء نوح الثلاثة : حام وسام ويافث ، فسميت لغات نسل سام باللغات السامية والمتكلمين بها بالساميين في حين سميت المجموعة الثانية من اللغات التي انتشرت في شمال أفريقيا بخاصة باللغات الحامية نسبة إلى حام .. ولم يكن شلوتز أول من تنبه إلى أوجه الشبه بين لغات هذه المجموعة بل سبقه إلى ذلك عدد من الكتاب العرب المسلمين منذ القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي ، فقد ذكر الخليل بن احمد الفراهيدي المتوفى في العام 175 هجرية / 786 ميلادية في معجمه( العين ) ما نصه : ( وكنعان بن سام بن نوح ينسب إليه الكنعانيون ، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية ) أما المسعودي علي بن حسن بن علي المتوفى في العام 346 هجرية / 956 ميلادية ، فقد ذكر في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر) معلومات دقيقة عن الأقوام التي تكلمت بهذه اللغات وعن علاقات بعضها ببعضها الآخر إلى درجة دفعت الباحث الروسي ( كرتشوفسكي ) أن يقول عنه ( من الغريب أن توجد لديه فكرة وحدة الشعوب السامية ، وذلك قبل عهد طويل من ظهورها كنظرية علمية في أوربا) .. وشبه ابن حزم الأندلسي المتوفى في العام 465 هجرية / 1064 ميلادية القرابة اللغوية بين العربية والعبرية والسريانية بقرابة لهجات اللغة الواحدة وذكر أن هذه اللغات إنما هي لغة واحدة في الأصل ، وذلك في كتابه ( الأحكام السلطانية ) الذي ورد فيه : ( أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعربية هي لغة مضر وربيعة – لا لغة حمير – لغة واحدة تبدلت مساكن أهلها فحدث فيها جرس كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان ، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي ، ومن الخراساني إذا أراد نغمتها .. فمن تدبر هذه اللغات أيقن أن اختلافها من نحو ما ذكرناه ، من تبديل ألفاظ الناس على طول الزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم وأنها لغة واحدة في الأصل ) ..
وشاعت تسمية اللغات السامية والأقوام السامية أو الساميين منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى الوقت الحاضر ، رغم ما فيها من قصور في الدلالة ولبس وافتراض سلسلة من النسب لا يعلم إلا الله صدقها فضلا عن عدم دقتها وافتقارها إلى الأساس العلمي ، الذي يثبت أن كل هـذه اللغات وأهلها ينتسبون إلى سام بن نوح ، حتى وقعت موقعا حسنا في نفوس الباحثين واللغويين ، ولا سيما الأوربيين منهم ، لسهولتها ولأنها تؤكد ما جاء في الكتاب المقدس الذي يقره اليهود والنصارى في جميع أنحاء العالم ..
وبدأت التسمية تأخذ طريقها في الانتشار واستخدمت من قبل الباحثين العرب والأجانب على حد سواء حتى غدا من الصعب والمحرج لأي باحث أن يناقش دقتها ومدى مطابقتها للمعلومات التاريخية المتوافرة لدينا عن تاريخ المنطقة لان مثل هذه المناقشة قد تتمخض عن نتائج تتعارض مع ما جاء في الكتاب المقدس .. ومع ذلك ، دعا عدد من الباحثين العرب وبخاصة من العراقيين المهتمين بالدراسات التاريخية واللغوية ، منذ سنوات عدة ، إلى ضرورة إعادة النظر في هذه التسمية في ضوء الدراسات التاريخية واللغوية والانثروبولوجية الحديثة والى إيجاد تسمية بديلة في حالة ثبوت عدم دقة التسمية القديمة ..
ويبدو أن من الأسباب التي دعت هؤلاء الباحثين إلى إيجاد تسمية بديلة هي حقيقة أن الدراسات الاثارية والتاريخية واللغوية ، فضلا عن الدراسات الانثروبولوجية ، التي تمت خلال القرنين الماضيين قد أثبتت عدم دقة ما ورد في أسفار العهد القديم عن انساب نوح عليه السلام ، ومع ذلك لو افترضنا جدلا ، أن أولاد سام بن نوح ( عليه السلام ) قد انتشروا فعلا ، كما يذكر سفر التكوين في منطقة الشرق الأدنى القديم ، فانه يتبع هذا الافتراض أن تكون لغات جميع الأقوام التي ذكر بأنها من نسل سام مثلا ، متقاربة ومتشابهة وتنتمي بأصولها إلى أصل مشترك واحد ، وهذا ما لا ينطبق على ما ورد في سفر التكوين ، حيث يذكر الإصحاح العاشر من السفر المذكور ما نصه ( بنو سام عيلام وآشور وارفكشاد ولود وارم ) أي انه عدّ العيلاميين والليديين والكوشيين من جملة الأقوام السامية ، حسب تسمية شلوتزر ، في حين أثبتت الدراسات الحديثة أن كلا من العيلاميين ، وهم الذين استقروا في القسم الجنوبي الغربي من إيران ، والليديين ، الذين استقروا في القسم الشمالي الغربي من إيران وبعض أجزاء آسيا الصغرى ، هم من الأقوام التي عرفت بالأقوام الهندية – الأوربية المختلفة عرقيا ولغويا عن الأقوام التي سماها شلوتزر بالأقوام السامية ، وان الكوشيين هم من الشعوب الزنجية الأفريقية ومنهم الأحباش الذين يتكلمون بإحدى اللهجات اليمنية القديمة وبخط مشتق من خطها المسمى المسند ..
وفضلا عن ذلك فان سفر التكوين أقصى الأقوام الكنعانية عن هذه المجموعة من الأقوام ، في حين يمثل الكنعانيون أول هجرة من هجرات الأقوام التي سميت بالسامية التي جاءت أصلا من شبه الجزيرة العربية واستقرت منذ أقدم العصور في بلاد الشام في ارض كنعان ، وهي المنطقة التي عرفت فيما بعد بفلسطين ، وبذلك فأنهم ، أي الكنعانيين ، يمثلون أقدم سكان ارض فلسطين المعروفين حتى الآن ، ويؤيد ذلك الأسماء الكنعانية الأصل التي تحملها أهم المدن التي قامت في هذه المنطقة مثل أريحا وبيت شان ومجدو وأورشليم وجازر وغيرها ..
كما أن سفر التكوين لم يذكر العرب من بين أولاد نوح أو سام وكأنه لم يكن لهم وجود في المنطقة ، في حين أثبتت الدراسات الحديثة ، ومنها دراسة الأستاذ رضا جواد الهاشمي الموسومة ( العرب في ضوء المصادر المسمارية ) المنشورة في مجلة كلية الآداب – جامعة بغداد عام 1978 ، بان اسم العرب كان معروفا منذ فترة طويلة جدا سبقت تاريخ تدوين أسفار العهد القديم بعدة قرون ، وكان يدل على بعض القبائل البدوية من سكان شبه الجزيرة العربية ولا يقتصر هذا الارتباك على أولاد سام فحسب ، بل نجده واضحا أيضا في انساب حام ، حيث ذكر الحيثيين على أنهم من نسل كنعان بن حام ، والحيثيون هم ، كما هو ثابت اليوم ، من الأقوام الهندية – الأوربية التي جاءت من جهة أواسط آسيا واستقرت في آسيا الصغرى وشمالي سوريا في الألف الثاني قبل الميلاد ..
إن هذا الاضطراب والخلط في سفر التكوين ، على حد تعبير الباحثين واللغويين العرب، لا يمكن تفسيره إلا بأنه ناتج عن جهل كتاب العهد القديم بأصول أقوام الشرق الأدنى القديم وعلاقة بعضهم بالبعض الآخر ، وربما اعتمادهم في إيجاد العلائق بينهم على بعض المظاهر الحضارية ، كاستخدام الكتابة المسمارية مثلا ووضع ذلك في إطار ديني يرتبط بنوح ( عليه السلام ) دون أن يكون هناك سند تاريخي لذلك ..
فضلا عن ذلك ، فان التسمية الحديثة ، وهي السامية قد أصبحت تستخدم في العصر الحديث ، ولا سيما في أوربا أبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها ، للدلالة على اليهود فقط دون غيرهم ، كما وُصِف من يعاديهم من الأوربيين النازيين بأنهم ضد السامية ، ووُصف العرب أيضا بأنهم ضد الساميين على الرغم من أنهم من مجموعة الأقوام التي أطلق عليها مصطلح الأقوام السامية حسب تسمية شلوتزر ، وهو أمر يدعو إلى الاستغراب ويشير إلى المغالطات التي استخدمتها الحركة الصهيونية العالمية في دعايتها المغرضة ضد العرب ..
لغات عاربة وليس لغات سامية
وفي ضوء ما تقدم بات من الضروري إيجاد تسمية بديلة لهذه الأقوام وللغات التي استخدمتها ، وكان أول من دعا إلى ذلك هو المرحوم الدكتور جواد علي ، إذ جاء في كتابه ( تاريخ العرب قبل الإسلام ) ما نصه :
( إني سأطلق لفظ عرب على جميع سكان الجزيرة بغض النظر عن الزمان الذي عاشوا فيه والمكان الذي وجدوا فيه ، سواء أكانوا سكنوا في الشام الشمالية أم في الأقسام الوسطى من جزيرة العرب أم في الأقسام الجنوبية منها ، فكل هؤلاء في نظري عرب ، وعرب علم لقومية خاصة ومصطلح ظهر متأخرا في النصف الأخير من الألف الأول قبل الميلاد ، وتركز وتثبت بعد الميلاد خاصة ، وقبيل ظهور الإسلام على الأخص .. وعلى هذا فالذين عاشوا قبل الميلاد بقرون عديدة وبألوف من السنين ، هم عرب ، وبالطبع وان لم يدعوا عربا .... ولعلني لا أكون مخطئا أو مبالغا إذا قلت أن الوقت حان لاستبدال مصطلح سامي وسامية بعربي وعربية ، فقد رأينا أن تلك التسمية ، تسمية مصطنعة تقوم على أساس التقارب في اللهجات وعلى أساس فكرة الأنساب الواردة في التوراة ... أما مصطلحنا العرب الذي يقابل السامية ، فهو اقرب عندي – في نظري – إلى العلم وليس ببعيد ولا بقريب عن العلم والمنطق أن السامية عربية لكونها ظهرت في جزيرة العرب ونحن نعلم أن كثيرا من العلماء يرون أن جزيرة العرب هي مهد الساميين ) ..
ويبدو أن المرحوم الأستاذ جواد علي ، كما يقول الدكتور عامر سليمان ، لم يكن واثقا كل الثقة من التسمية التي اقترحها ، كما انه تعرض إلى انتقادات كثيرة مما دفعه إلى التراجع عن هذا الرأي في العام 1968 في كتابه التالي ولم يقدم مصطلحا بديلا كما فعل في المرة الأولى ..
وفي العام 1973 أشار أستاذنا المرحوم طه باقر في كتابه ( مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ) إلى تسمية الساميين واللغات السامية واقترح ضرورة استبدالها بتسمية أخرى بعد أن ثبت عدم دقتها وقال : ( يجدر بنا أن نبيّن أن هذه التسمية الشائعة ، أي الساميين واللغات السامية ، غير موفقة ولا صحيحة في رأي رغم شيوعها في الاستعمال ، ولو أننا سمينا هذه اللغات بلغات الجزيرة أو اللغات العربية والأقوام السامية بالأقوام العربية أو أقوام الجزيرة لكان ذلك اقرب إلى الصواب ) .. إلا أن الأستاذ طه باقر لم يأخذ بأي من مقترحاته ، إذ استخدم مصطلح السامية واللغات السامية في الصفحة التالية من كتابه نفسه واكتفى بتقديم المقترح ..
كما أشار الأستاذ لطفي عبدالوهاب في كتابه ( العرب في العصور القديمة ) إلى خطا التسمية القديمة من الجوانب العلمية والانثروبولوجية والتاريخية واللغوية ، إلا انه لم يقدم بديلا عنها ..
وفي العام 1978 قال الدكتور عامر سليمان في كتابه ( محاضرات في التاريخ القديم ) بضرورة استبدال الاسم ، بعد أن بين خطاه ، بمصطلح اللغات العربية القديمة ، وتسمية المتكلمين بها بالأقوام العربية القديمة ، اعتقادا منه بأنه لابد وان تضم التسمية البديلة اسم العرب ، وهم العنصر الأول والأساس ، الذي عاش في شبه الجزيرة العربية وما يزال ... ولتمييزهم عن العرب الحاليين ، الذين يؤلفون قسما مهما منهم ، وصفهم بالقدماء ووصف لغاتهم بالقديمة .. وفي الأعوام التالية استخدم عدد من الباحثين العراقيين مصطلح اللغات الجزرية والأقوام الجزرية بدلا من اللغات السامية والساميين .. وابرز هؤلاء الباحثين المرحوم الدكتور سامي سعيد الأحمد ، فهو أول من استعمل اصطلاح الجزري واللغات الجزرية والأقوام الجزرية بدل السامي والسامية والأقوام السامية في بحث عنوانه ( الجزرية وليس السامية ) باللغة الانكليزية ونشر في جريدة ( بغداد اوبزرفر ) في 27 تشرين الأول 1978 عدد 3259 ، وخلاصة رأيه تتمثل ، كما ذكر لي ذلك شخصيا ايضا في العام 1978، بما أن المجموعات البشرية التي اندفعت من شبه الجزيرة العربية سواء من شمالها الغربي ( منطقة الجزيرة الفراتية ) أو من أجزائها الأخرى فيستحسن إطلاق لفظة الجزريون ( سكان الجزيرة العربية ) عليهم ..
وفي العام 1999 أغنى المكتبة العربية الأستاذ الدكتور محمد بهجت قبيسي بكتابه القيم ( ملامح في فقه اللهجات العربيات ، من الاكدية والكنعانية وحتى السبئية والعدنانية ) ، إذ انه استخدم مصطلح اللهجات العربيات ، للدلالة على اللغات التي تفرعت عن اللغة الأم التي كان موطنها الأول في شبه الجزيرة العربية وبذلك أطلق على كل لهجة تفرعت عن تلك اللغة الأم اسمها كما ورد في النصوص القديمة مسبوقا بعبارة ( اللهجة العربية ) فسمى الاكدية مثلا اللهجة العربية الاكدية والآرامية اللهجة العربية الآرامية وهكذا ..
وكان آخر تسمية مقترحة هي التي قدمها الأستاذ الدكتور خالد إسماعيل ، الذي عنون كتابه عن فقه هذه المجموعة من اللغات بالتسمية المقترحة وهي ( فقه اللغات العاربة المقارن ) ..
وعن تسميته المقترحة يحدثنا الدكتور خالد إسماعيل فيذكر انه من الأفضل لو قلنا اللغات العاربية أو العاربة ، لان العاربة ، كما تروي الأنساب ، هم سكان جزيرة العرب الأوائل الذين بادوا أو تفرقوا في القبائل مثل طسم وعاد وجديس وثمود ، ويشير علماؤنا أيضا إلى السريان والسريانية كإحدى اللغات القديمة والى أن بابل كانت الموطن الأول الذي اجتمعت فيه الشعوب قبل تفرقها ، مما يومئ أيضا إلى إدراكهم صلة البابليين بهذه الأقوام وبلغاتهم .. ومع أن أخبارهم تفتقد إلى الدقة ، إلا أنهم كانوا يدركون بشكل عام أن تلك الأقوام واللغات كانت تنضوي تحت مصطلح العاربة .. ويضيف ، انه ابتغاء للشمول ورفعا للبس ، وأخذا بما هو معروف ومأثور لدى علماء الأنساب والتاريخ عندنا فقد اخترت مصطلح ( اللغات العاربية ) أو ( لغات العاربة ) و ( العاربة ) بدلا من اللغات السامية والساميين للأسباب الآتية :
1. يتفق علماؤنا على أن سكان جزيرة العرب الأوائل القدامى هم العاربة ، ومنهم : طسم وعاد وجديس وأميم وحمير وثمود وأرم وقوم تبع ومَدين وسبأ ، وأقوام غيرهم لا يعلمهم إلا الله .. هؤلاء هم الأقرب إلينا زمنا .. ومن العاربة أيضا من ذكرهم القرآن الكريم مثل : قوم نوح وقوم إبراهيم ومن ذريتهم إسماعيل واسحق ويعقوب ومنهم أيضا : اليسع وذو الكفل ويونس وإدريس ولوط وبني إسرائيل الذين يذكرون أيضا بقوم موسى وقوم هود ، وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس وقوم مريم وزكريا وعيسى كل تلك الأقوام التي كان بعضهم ينتسب إلى بعض بألسنتهم المختلفة كانت مساكنهم تنتشر في شتى أجزاء جزيرة العرب وأطرافها ، في سبأ والاحقاف ومدين والحجر والعراق وبابل وسيناء ومكة والرقيم ومصر والأرض المقدسة فلسطين والمدينة .. هؤلاء كلهم العاربة ومنهم الأعراب والعرب ، وتلك هي منازلهم ومواطنهم ومدنهم وقراهم ولكل امة منهم لسان وآخرهم اللسان العربي المبين ، الفصيح ، لسان القرآن الكريم المُعرب ، الذي نُسي ، أو كاد ، ثم بُعث وحياً إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم النبي فأعجز العرب ، بل الإنس والجن بقوله تعالى : ( قل لأان اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا )( الإسراء 17/ 88 ) ..
2. كانت العربية الأولى تتسم بأغلب خصائص لغات العاربة الموغلة في القدم كالاكدية والابلية والاوجاريتية ، وفي مقدمتها الإعراب الذي زال في منتصف الألف الأول قبل الميلاد ، فلما بُعثت العربية الأولى بالقرآن الكريم ، بلسان عربي مبين ، بعد ذلك بنحو 1500 سنة ، أعجزت العرب عن مجاراتها ، إذ وجدوا فيها لغة قد نسيت أو كادت ، لغة كان العاربة يعرفونها زمن الاكديين ، أي قبل نحو 3000 سنة على الأقل ، ولم يبق شاهدا عليها إلا أبيات قليلة وأمثال وكلمات مفردة هنا وهناك ، يعرفها فصحاء الأعراب في القبائل الفصيحة ..
3. قسّم بعض علماء الأنساب العرب العاربة أي الأوائل و القدامى إلى : العاربة والمتعّربة والمستعربة ويقصدون بالعاربة ، الأقوام الأولى التي بادت أو تفرقت في القبائل والأمصار ، والذين كانت لغاتهم معربة ، كالعرب العاربة ، الذين جاء القرآن بلغتهم والاكديين والابليين والاوجاراتيين الذين نعرف من كتاباتهم أن لغاتهم كانت معربة ، وربما كان منهم قوم عاد وطسم وجديس واميم والله اعلم ، إذ لا دليل لدينا كتابيا على ذلك ..
أما المتعربة : فهم الذين يلونهم ، وقد فقدت لغاتهم أكثر العلامات الإعرابية ، كالآرامية القديمة والفينيقية واللهجات الكنعانية القديمة .. وتؤرخ هذه كلها ابتداء من الألف الأول قبل الميلاد فما دون ..
أما المستعربة فهم العرب في الجاهلية والآرامية الحديثة ولهجاتها ، والسريانية والنبطية والحضرية والتدمرية والمندائية وغير ذلك مما يؤرخ بنحو منتصف الألف الأول قبل الميلاد فمادون ، حتى ظهور الإسلام ، وهي اللغات واللهجات التي فقدت أو كانت تفقد العلامات الإعرابية تماما .. فالعرب المستعربة هم الذين تعلموا الإعراب واللغة الفصيحة وخصائصها القديمة بالقرآن الكريم فاستعادوا لغتهم الأولى القديمة، أما لغة العوام ولهجات القبائل المختلفة فبقيت كما هي تقريبا منذ ظهور الإسلام حتى الآن ..
4. قسم علماؤنا لغات العرب ولهجاتهم إلى عدنانية شمالية وقحطانية جنوبية بلهجاتها ، كلهجة مضر ، التي ذكر ابن خلدون في مقدمته ، أنها شمالية ، ولهجة حمير الجنوبية ..
وكان رأي علمائنا أن الناس كانوا امة واحدة فتفرقوا وكانت لغتهم واحدة ثم تشعبت .. وكان بعضهم يظن أن لغتهم كانت العربية وفريق آخر قال : إنها السريانية ، وهذه في جملتها أقوال غير دقيقة ، ولكنها تشير إلى قدم بابل العرب ورد اسمها في اقدم نصوص العراق القديم في السومرية والاكدية بمعنى باب الاله ( باب ال ) . وهي ليست مشتقة من البلبل . لهذه الاسباب جميعا ، من اجل الشمول ورفعا للبس واتباعا لما كان معروفا وشائعا في صدر الاسلام . وهو زمن قريب الينا ، وليس رجما بالغيب ، نهجنا في هذه الرسالة على تسمية الساميين بالعاربة او لما يسميهم بالجزريين واللغات السامية باللغات العاربية او لغات العاربة او ( اللغات الجزرية ) ومن مزايا هذا المصطلح انه يخلو من المدلول السياسي الحديث الذي لصق بالساميين والسامية . وخص به اليهود دون غيرهم ..
وهكذا تعددت المقترحات وغدا كل باحث يستخدم التسمية التي يراها أفضل من غيرها إلا أن جميعهم أرادوا في التسمية البديلة أن تشير إلى الموطن الأول الذي يفترض أن خرجت منه الأقوام التي تكلمت بهذه الفصيلة من اللغات ، وهو شبه الجزيرة العربية ..
يقول الدكتور عامر سليمان في كتابه ( اللغة الاكدية ) مع انه قدم مقترحه في العام 1978 وانه يفضله على غيره من المقترحات إلا انه اثر حينئذ استخدام المصطلح الذي استخدمه عدد من الباحثين العراقيين فيما بعد ، وهو اللغات الجزرية والأقوام الجزرية ووضعه إلى جانب مقترحه بين هلالين ، رغبة منه في توحيد الآراء وتثبيت إحدى التسميات علّها تزيح التسمية القديمة وتبطل استخدامها .. وهو يرى أن من شروط التسمية الواجب استخدامها ، فضلا عما ذكر سابقا ، أن تكون معبرة عن السكان الأوائل للمنطقة التي يفترض أنها كانت الموطن الأول الذي هاجر منه المتكلمون بمجموعة اللغات موضوع البحث ، وانتشروا في بلاد الرافدين والشام بالدرجة الأساس .. وطالما كان هناك شبه إجماع على أن شبه الجزيرة العربية هي ذلك الموطن ، فان علينا أن نبحث عن الاسم الذي يمكن أن يستخدم للدلالة على سكان شبه الجزيرة الأوائل ونشتق منه اسما يطلق على اللغات التي تفرعت عن اللغة ألام التي يفترض انه تكلم بها السكان الأوائل .. ويرى الدكتور عامر سليمان أن هذا الشرط يستبعد إمكانية استخدام الساميين الذي لا علاقة له باسم السكان الأوائل لشبه الجزيرة العربية ، ويرشح إحدى التسميات البديلة الأخرى التي ترتبط باسم سكان شبه الجزيرة وهو اسم ( العاربة ) الذين يمثلون أقدم سكان شبه الجزيرة العربية حسبما ورد في كتب الأنساب العربية ، واسم العرب الذين يمثلون العنصر الأساس في شبه الجزيرة العربية منذ أقدم ورود الاسم وحتى الآن ، وكلا الاسمين مشتق من الجذر الثلاثي ع ر ب ..
ويضيف الدكتور سليمان ، أن البحث عن أصول اسم عرب وعاربة يقودنا إلى أقدم النصوص التي وردت فيها صيغة هذا الاسم ، وهي النصوص الأشورية المسمارية ، إذ ورد في النصوص التي ترقى بتاريخها إلى أواسط القرن التاسع قبل الميلاد تسمية تتألف من الحروف الثلاثة انفه الذكر للدلالة على أقوام معينة وعلى موطنهم الذي كان في أطراف شبه الجزيرة العربية ..
والباحث يتفق في الرؤية إلى هذا الموضوع مع ما ذهب إليه الأستاذان الفاضلان الدكتور خالد إسماعيل والدكتور المرحوم عامر سليمان ، وقد استقر رأيه على تبديل تسمية اللغات السامية إلى اللغات العاربة وستحل هذه التسمية أينما وردت في كتاباته السابقة واللاحقة بدل التسمية القديمة ..
***
(*) باحث واكاديمي عراقي متخصص باللغة العبرية والأدب العبري