وصايا الخلفاء رضي الله عنهم إلى قادة الجيوش
ـــــــــــــــــــــــــــــــ د . صالح العطوان الحيالي - العراق- 25-1-2019
الحرب رحى ثقالها الصبر وقطبها المكر ومدارها الاجتهاد وثقافها الأناة وزمامها الحذر ولكل شيء من هذه ثمرة فثمرة الصبر التأييد وثمرة المكر الظفر وثمرة الاجتهاد والتوفيق وثمرة الأناة اليمن وثمرة الحذر السلامة. ولكل مقام مقال ولكل زمان رجال والحرب بين الناس سجال والرأي فيها أبلغ من القتال.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معد يكرب: صف لنا الحرب قال: مرة المذاق إذا كشفت عن ساق من صبر فيها عرف ومن نكل عنها تلف ثم أنشأ يقول: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا حميت وشب ضرامها عادت عجوزاً ذات خليل شمطاء جزت رأسها وتنكرت مكروهة للثم والتقبيل وقيل لعنترة الفوارس: صف لنا الحرب.
فقال: أولها شكوى وأوسطها نجوى وآخرها بلوى.
وقال الكميت: والناس في الحرب شتى وهي مقبلة ويستوون إذا ما أدبر القبل كل بأمسيها طب مولية والعاملون بذي غدويها قلل وقال نصر بن سياد صاحب خراسان يصف الحرب ومبتدا أمرها: أرى خلل الرماد جمر فيوشك أن يكون له ضرام فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام فقلت من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: الشر حلو أوله: مر آخره.
والعرب تقول: الحرب غشوم لأنها تنال غير الجاني وقال حبيب: والحرب تركب رأسها في مشهد عدل السفيه به بألف حليم في ساعة لو أن لقماناً بها وهو الحكيم لكان غير حكيم وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب: لا حلم لمن لا سفيه له.
ونحو هذا قول الأحنف بن قيس: ما قل سفهاء قوم قط إلا ذلوا.
وقال: لأن يطيعني سفهاء قومي أحب إلي من أن يطيعني حلماؤهم.
وقال: أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار.
وقال النابغة الجعدي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا وأنشد هذا الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى هذا البيت قال له النبي صلى وقال النابغة الذبياني يصف الحرب: تبدو كواكبه والشمس طالعة لا النور نور ولا الإظلام إظلام يريد بقوله: " تبدو كواكبه والشمس طالعة " شدة الهول والكرب كما تقول العامة: أريته النجوم وسط النهار.
قال الفرزدق: " أريك نجوم الليل والشمس حية " وقال طرفة بن العبد: " وتريك النجم يجري بالظهر " وإليه ذهب جرير في قوله: والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا يقول: الشمس طالعة وليست بكاسفة نجوم الليل لشدة الغم والكرب الذي فيه الناس.
ومن قولنا في صفة الحرب: ومغبر السماء إذا تجلى يغادر أرضه كالأرجوان وكل مشطب المتنين صاف كلون الملح منصلت يماني كأن نهاره ظلماء ليل كواكبه من السمر اللذان وفي صفة المعترك: ومعترك تهز به المنايا ذكور الهند في أيدي ذكور لوامع يبصر الأعمى سناها ويعمي دونها طرف البصير وخافقة الذرائب قد أنافت على حمراء ذات شباً طرير تحوم حولها عقبان موت تخطفت القلوب من الصدور بيوم راح في سربال ليل فما عرف الأصيل من البكور وعين الشمس ترنو في قتام رنو البكر من بين الستور فكم قصرت من عمر طويل به وأطلت من عمر قصير العمل في الحرب قيل لأكثم بن صيفي: صف لنا العمل في الحرب.
قال: أقلوا الخلاف على أمرائكم فلا جماعة لمن اختلف عليه.
واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل فتثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب وقال شبيب الحروري: الليل يكفيك الجبان ونصف الشجاع.
وكان إذا أمسى يقول لأصحابه: أتاكم المدد يعني الليل.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل وسمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم: المنازعة في الحرب خور والصياح فيها فشل وما برأيي خرجت مع هؤلاء.
وقال عتبة بن ربيعة لأصحابه يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترونهم خرساً لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الحيات.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أكثر النظر في العواقب لم يشجع.
وقال النعمان بن مقرن لأصحابه عند لقاء العدو: إني هاز لكم الراية فليصلح كل رجل منكم من شأنه وليشد على نفسه وفرسه ثم إني هازها لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم موقع سهمه وموضع عدوه ومكان فرصته ثم إني هازها لكم الثالثة وحامل فاحملوا على اسم الله.
وللنعمان بن مقرن هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه - إذ تكاملت عنده الحشود وتطلع الصحابة إلى التقدم عليها -: لأقلدن أعنتها رجلاً يكون عداء لأول أسنة يلقاها.
فقلدها النعمان بن مقرن.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهزوا الفرصة فإنها تمر مر السحاب ولا تطلبوا أثراً بعد عين.
وقال بعض الحكماء: انتهز الفرصة فإنها خلسة وثب عند رأس الأمر ولا تثب عند ذنبه.
وإياك والعجز فإنه أذل مركب والشفيع المهين فإنه والله أضعف وسيلة.
وخرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك فقيل له: ما يهمك منهم! وجه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيكم.
فقال: لا إن وكيعاً رجل به كبر يحتقر أعداءه ومن كان هكذا قلت مبالاته بأعدائه فلم يحترس منهم فيجد عدوه غرة منه.
وسئل بعض الملوك عن وثائق الحزم في القتال فقال: مخاتلة العدو عن الريف وإعداد العيون على الرصد وإعطاء المبلغين أمانا على مستأمن ولا تشدهنك الغنيمة عن المحاذرة.
وفي بعض كتب العجم: أن حكيماً سئل أشد الأمور تدريباً للجنود وشحذاً لها فقال: تعود القتال وكثرته وأن يكون لها مواد من ورائها.
إن امتثال قادة الجيوش لأوامر الخلفاء والأمراء، يعد سببًا رئيسيًّا من أسباب النصر، وقد وجهت هذه الأوامر أحيانًا على شكل وصايا، يقدمها الخليفة أو الأمير لطلائع جيشه مشافهة أو مكتوبة قبل المعركة أو في أثنائها؛ لكي يكونوا على بينة من أمرهم، وترشدهم هذه الوصايا إلى الطريق الأقوم.
نذكر من هذه الوصايا الحربية التي وردت في التراث العربي:
* وصية أبي بكر الصديق "رضي الله عنه" لأسامة بن زيد حين سيره لقتال الروم.
* وصية أبي بكر الصديق "رضي الله عنه" إلى خالد بن الوليد لما جهزه لقتال المرتدين.
* وصية عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" إلى سعد بن أبي وقاص لما وجهه لقتال الفرس.
* وصية علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" إلى معقل بن قيس ، حين أرسله إلى الشام في ثلاثة آلاف مقاتل.
*وصية علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" إلى عسكره قبيل معركة صفين.
* وصية جعفر المنصور إلى عيسى بن موسى لما وجهه لحرب بني عبدالله بن الحسن.
* وصية أبجر بن جابر لبنيه إذا لاقوا عدوهم.
* وصية أكثم بن صيفي إلى بني تميم حين سارت إليهم بنو مذحج لقتالهم.
إن هذه الوصايا الحربية تحدثت عن الإعداد الجيد للمعركة، وعن أسباب النصر، وتضمنت تحذيرات وتنبيهات إلى القادة العسكريين، وسنتعرف فيما يلي على مضامين هذه الوصايا، وما دعت إليه من الإعداد المادي والمعنوي؛ لإحراز النصر في المعركة.
وصايا نبوية عامة
ــــــــــــ أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما أرسله في شعبان سنة 6 هـ إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ فقال له: "اغزوا جميعًا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، فهذا عَهْدُ اللهِ وسيرة نبيّه فيكم"
عَنِ ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ: "اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ" .
كانت تلك هي وَصَايَا الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم جميعًا عندما كان يُرسلهم لدعوة الناس إلى الإسلام، والأخذ بأيديهم إلى طريق الله تعالى، وفَتْحِِ الأبواب أمام الدعوة الإسلامية حتى تصل لكل البشر، وحتى لا يُحرَمَ أحدٌ من نُور الإسلام العظيم...
وصية الرسول بالصغار وإن كانوا مقاتلين
ــــــــــــــ لم تكن حالات الحرب والقتال لتُخرِجَ النبي صلى الله عليه وسلم عن أخلاقه السامية، وعن رحمته صلى الله عليه وسلم التي يَتَحَلَّى بها حَالَ السَّلْم؛ لذا فقد كان يرحم الغِلمان وصغار السن الذين لا يملكون أمرهم، ويأتون للحرب ضد المسلمين، أو لمعاونة سادتهم رغم أن تلك المساعدة هي من صميم أعمال الحرب، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يرحم طفولتهم؛ ففي أحداث غزوة بدر ذكر ابن إسحاق رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم في نفرٍ من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه ( أي على الماء)؛ فأصابوا راويةً لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورَجَوْا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما؛ فقالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد سجدتيه، ثم سلم وقال: "إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟!.. صدقا، والله إنهما لقريش".. - ثم خاطب صلى الله عليه وسلم الغلامين بلينٍ ورفقٍ قائلاً لهما: أخبراني عن قريش؟"
ومع أن هذين الغلامين اللذين ضُرِبَا من الجيش الْمُعَادِي - جيش المشركين – ويُمِدَّان الجيشَ بالماء، إلا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم عاتبَ صحابته الكرام لأجلهما، وأنكرَ عليهم ضربهما؛ بَلْ إنّه لم يتخذهما أسيرين مع أن الحرب على الأبواب، ومع أنهما قد يحملان بعض الأخبار إلى العدو، ولكنَّه رَحِمَ صِغَرَ سِنِّهِمَا وضَعْفِهِمَا.
وكذلك كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بنفسه؛ فَكَانَ يَنْهَى عَنْ قَتْلِ النّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمُقَاتِلَةِ، فَمَنْ رَآهُ أَنْبَتَ قَتَلَهُ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ اسْتَحْيَاهُ
وهؤلاء مع أنهم يُقَاتلون بالفعل، إلا أنهم غير بَالِغِينَ؛ وبالتّالي غير مكلَّفين، ومدفوعين بغيرهم؛ فلذلك رَحِمَهُمْ.
وصية الرسول بالقتلى وذويهم
وظهرت رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم في حرصه حتى على القتلى، وكذلك على مشاعر ذويهم؛ لذا فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَة؛ فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النُّهْبَى ، والمُثْلَة" .
وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ" .
ورغم ما حدث في غزوة أحد من تمثيل المشركين بـ حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عَمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُغَيِّر مبدأه، بل حرص على النهي عن المُثلة حتى مع المشركين، ولم يَرِدْ في التاريخ حادثة واحدة تقول: إن المسلمين مَثَّلوا بأحدٍ من أعدائهم.
وقد يَتَّخِذُ البعض قاعدة "المعاملة بالمثل" مبرّرًا لهم ليفعلوا ما يشاءون في أعدائهم، محاربين كانوا أو مدنيّين، ولكنَّ الإسلام لا يُقِرُّ القسوة أو الظلم مهما كانت المبرّرات، ولذلك لا يُطبق هذه القاعدة مع المدنيين للدولة المحاربة، حتى لو آذوا المدنيين في بلادنا!
يقول الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
قال القرطبي رحمه الله: دَلّت الآية على أنّ كُفر الكافر لا يَمنع من العدل معه، وأن المثلة بهم غير جائزة، وإن قَتلوا نساءنا وأطفالنا وغَمُّونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدًا لإيصال الغمِّ والحزن إليهم
فهل في مناهج الأرض مثل منهجنا؟!
وصية الرسول بعدم الإفساد في الأرض
ــــــــــــــــــ لم تكن حروب الرسول صلى الله عليه وسلم حروب تخريب كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يحرصون أشدّ الحرص على الحفاظ على العُمران في كل مكان، ولو كان بلاد أعدائهم؛ فقد جاء في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لجيش مؤتة: ".... ولا تَقْطَعَنَّ شَجَرَةٍ وَلا تَعْقِرَنَّ نَخْلًا ولا تَهْدِمُوا بَيْتًا"
الإعداد للمعركة
ــــــــــــــــــــــــــــ لقد أمر الله تعالى المسلمين بإعداد العدة للحرب، والاستعداد لها عند ملاقاة العدو فقال سبحانه: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} (الأنفال:60). ومن الإعداد للحرب: التهيئة لها باختيار القادة الأكفاء، ومعرفة أخبار العدو، وأخبار تحركاته، ومقدار قوته ونقاط ضعفه، وتهيئة أمراء الجند، ورفع الروح المعنوية لدى الجنود، وتزويدهم بالثقافة القتالية، وتحديد الظروف المناسبة للتحرك وبدء ساعة القتال.وعن معظم هذه المعاني أوصى الخليفة مروان بن محمد ابنه عبدالله عندما وجهه لقتال الضحاك في الجزيرة فقال له:
«تقدم في طلائعك، فإنها أول مكيدتك، ورأس حربك، ودعامة أمرك، فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالًا ذوي نجدة وبأس وصرامة وخبرة، حماة كفاة، قد صُلوا بالحرب، وتذاوقوا سجالها، وشربوا مرارًا كؤوسها. ثم أذْكِ عيونك على عدوك متطلعًا لعلم أحوالهم التي يتقلبون فيها، ومنازلهم التي هم بها، ومطامعهم التي قد مدوا أعناقهم نحوها، ومن أي الوجوه مأتاهم، أمِنْ قبل الشدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإيعاد؟ أو الترغيب والإطماع؟ مبينًا في أمرك، متخيرًا في رؤيتك، مستمكنًا في رأيك، مستشيرًا لذوي النصيحة الذين قد حنكتهم السن، وخطبتهم التجربة. وليكن في عسكرك مكبرون بالليل والنهار قبل المواقعة، وقوم موقوفون يحضونهم على القتال، ويحرضونهم على عدوهم، ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم، ويذكرونهم الجنة ودرجاتها، ونعيم أهلها وسكانها ويقولون: اذكروا الله يذكركم، واستنصروه ينصركم، والتجئوا إليه يمنعكم. وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتهيئة جندك، ووضعهم مواضعهم من راياتك، ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو سن وتجربة ونجدة على التهيئة التي أمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابه، فافعل إن شاء الله تعالى» .
الثبات في ساحات الوغى
ــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن الأمور الهامة في سير المعارك وانتصار الجيوش: الثبات في ساحات القتال، وأثناء مواجهة العدو، وعدم الفرار يوم الزحف، وهذا ما أوصى به أبجر بن جابر أبناءه بقوله: «يا بني، إن سركم طول البقاء، وحسن الثناء، والنكاية في الأعداء، فإذا استقبلتم الخميس (الجيش) فاستقبلوهم بوجوهكم، وإياكم أن تمنحوهم أكتافكم، فتطعنوا بالرماح في أدباركم، فإن أمثل القوم بُغْيةً: الصابر عند نزول الحقائق» .
الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ووصاياه عن بدء القتال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما عن بدء القتال، فقد أكد الإمام علي بن أبي طالب-كرم الله وجهه- لأكثر من قائد: ألا يبدأ بالقتال مع العدو، لأن العدو قد يستسلم أو يميل إلى الصلح، أو يدخل في التفاوض، وقد تكون الحجة على الذي يبدأ بالعدوان. قال الإمام علي- كرم الله وجهه- لعسكره قبيل معركة صفين: «لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم» . وقال الإمام علي "رضي الله عنه" لمعقل بن قيس الرياحي حين أرسله إلى الشام: «ولا تقاتلن إلا من قاتلك» .وحدد بعضهم للجيش وقت المسير والتحرك، فإن لوقت التحرك أهمية كبيرة في الإعداد للمعركة وسيرها، وحبذوا التحرك في النهار والإقامة في الليل، ولاسيما أنهم في زمن لم تكن فيه إضاءة وكواشف ليلية، وقد جعل الله الليل للسكن والراحة. فقد أشار علي "رضي الله عنه" على معقل قائلًا: «ولا تسر أول الليل، فإن الله جعله سكنًا وقدره مقامًا لا ظعنًا، فأرح فيه بدنك، وروح ظهرك، فإذا وقفت حين ينبطح السحر أو حين ينفجر الفجر، فسر علىبركة الله» وحدد علي (رض) لقائده العسكري معقل مكان وقوفه من العدو قبل المعركة فقال: «فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطًا، ولا تدن من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد ممن يهاب البأس حتى يأتيك أمري، ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم» .
وصية عمربن عبد العزيز للجراح
ــــــــــــــــــــــــــــــــ كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الجراح: إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشاً أو سرية قال: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً.
فإذا بعثت جيشاً أو سرية فمرهم بذلك
أسباب النصر أثناء المعركة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن أغلب الخلفاء وزعماء الأمم لديهم خبرة عسكرية، وقد يكون بعضهم قد خاض حروبًا عديدة قبل أن يتقلد منصبه في قيادة الأمة، لذلك تعد وصاياهم نابعة عن خبرة وتجربة قبل أن تكون تقديرية تصورية،
تقوى الله ومخافته
ــــــــــــــــــــــ فقد أوصى الخلفاء والأمراء قادة جيوشهم والجنود بتقوى الله والصبر والثبات، وذكر الله والتوكل عليه في أثناء المعركة، فقد أمر الإمام علي "رضي الله عنه" معقل بتقوى الله عند لقاء العدو فقال له: «اتق الله الذي لابدَّ لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه» . وحث سيدنا أبو بكر الصديق "رضي الله عنه" خالد بن الوليد على تقوى الله مخاطبًا إياه: «يا خالد، عليك بتقوى الله والرفق بمن معك من رعيتك» .وأكد مروان بن محمد الحرص على التقوى عندما أوصى ابنه بقوله: «فإذا قضيت نحو عدوك، واعتزمت على لقائهم، وأخذت أهبة قتالهم، فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها، وثقتك التي تأمل النجاة بها، وركنك الذي ترتجي به منالة الظفر: تقوى الله- عز وجل- مستشعرًا لها بمراقبته والاعتصام بطاعته، متبعًا لأمره، مجتنبًا لسخطه، محتذيًا سنته، والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده، وتعدي شرائعه، متوكلًا عليه، واثقًا بنصره، فيما توجهت نحوه، متبرئًا من الحول والقوة فيما نالك من ظفر، وتلقاك من عز» . وإلى جانب التقوى يعدٌّ الصبر سلاحًا قويًّا في ثبات الجنود، فالجيش الذي لا يصبر جنوده على المحن والجراح ينهزم، لذلك نجد سيدنا عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" يوصي سعد بن أبي وقاص "رضي الله عنه" عندما وجهه إلى قتال الفرس بالصبر قائلًا: «.. الصبرَ الصبرَ على ما أصابك، تجتمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين، في طاعته واجتناب معصيته» . والصبر يحتاج إلى استعانة الجند بالله تعالى على قتال العدو، وعليهم أن يلجأوا إليه بالدعاء، ويتوكلوا عليه كي ينصرهم، وقد بيَّن ذلك أبوبكر الصديق "رضي الله عنه" لخالد بن الوليد "رضي الله عنه" عندما قاتل مسيلمة الكذاب وأهل الردة: «استعن بالله على قتالهم، فإنه قد بلغني أنهم رجعوا بأسرهم، فإن كفاك الله الضاحية، فامض إلى أهل اليمامة، سِرْ على بركة الله» . ومما يُثَبِّتُ الجنود في أرض المعركة، ويبعث الطمأنينة في نفوسهم ذكر الله تعالى، لذلك حضت الوصايا قادة الجيش والجنود على الإكثار من التكبير والتسبيح والدعاء؛ لكي يزداد ثباتهم، فقد كان رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يدعو الله كثيرًا بضراعة قبل المعركة وأثناءها. وقد مضى الخلفاء وغيرهم من الأمراء على هذه السنة، فتجدهم يوصون قادة الجيوش بذكر الله والدعاء، لما لهما من أهمية في صمود المقاتلين، فاتصالهم بالله تعالى في أرض المعركة يقوي عزيمتهم، ويزيد من إيمانهم وثباتهم.
وصية مروان بن محمد لابنه
ـــــــــــــــــــــ ومن الوصايا التي جاء فيها الأمر بذكر الله والدعاء وصية مروان بن محمد إلى ابنه، إذ طلب منه أن يأمر جنده بالتكبير والتسبيح والدعاء برسالته التي وجهها إليه: «مُرْ جندك بالصمت وقلة التلفت عند المصاولة، وكثرة التكبير في نفوسهم، والتسبيح بضمائرهم، وألا يظهروا تكبيرًا إلا في الكرات والحملات، وعند كل زلفة يزدلفونها، وأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن، وليذكروا الله في أنفسهم، ويسألوه نصره، وإعزازهم، وليكثروا من: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا الباغي، واكفنا شوكتهم المستجدة، وأيدنا بملائكتك الغالبين، واعصمنا بقوتك من الفشل والعجز، إنك أرحم الراحمين» .
وصية الصديق لاسامة بن زيد
ـــــــــــــــــــ عندما وجه خليفة رسول الله الصديق أسامة بن زيد لقتال الروم قال له ولمن معه: «يأيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تقعروا (تقتلعوا) نخلًا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له»
حسن معاملة الجند
ــــــــــــــــــــــــ ومن أسباب النصر: حسن معاملة القائد لجنوده وتعاونه معهم، واستشارتهم، فكلما كان القائد قريبًا من جنده، يرفق بهم، ويسأل عن أحوالهم، ويستشيرهم داخل المعركة وخارجها، كانوا أقوياء يقاتلون صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص، ويلتفون حول قائدهم يأتمرون بأمره، ويكونون رهن إشارته. ولقد فطن لهذا الأمر سيدنا أبوبكر الصديق "رضي الله عنه" ، فأوصى خالد بن الوليد "رضي الله عنه" بذلك عندما أرسله إلى المعركة قائلًا: «يا خالد، عليك بتقوى الله والرفق بمن معك من رعيتك، فإن أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أهل السابقة من المهاجرين والأنصار، فشاورهم فيما نزل بك ثم لا تخالفهم» .
تحذيرات ونواهٍ للجيوش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن الجيوش التي تدافع عن الحق وتحمي أرضها وتدفع العدو الظالم، عليها أن تتمسك بأخلاق المقاتلين البواسل، فإذا كان الهدف هو دحر العدو وقتال جنوده، والوقوف في وجهه، فليس هنالك من حاجة للتدمير والقتال غير المشروع. ولقد حرص المسلمون على أن تكون حروبهم شريفة بحيث يقفون للعدو بالمرصاد، ويكبدونه خسائر فادحة، ويدحرونه في أرض المعركة، إلا أنهم لا يقتلون طفلًا ولا امرأة ولا شيخًا، ولا يهلكون الحرث والنسل، ولا يحرقون المزروعات، ولا يقتلون الحيوانات.
أما غير المسلمين كالصهاينة والمستعمرين، فإنهم في حربهم يحرقون الأخضر واليابس، ويقتلون كل من يجدونه بآلتهم الحربية الفتاكة. وقد تعلَّم المسلمون هذه الأخلاق الرفيعة من الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" ، ومن الخلفاء الراشدين الذين كانوا ينهون الجيوش الإسلامية عن ارتكاب مثل هذه الجرائم الشنيعة.فعندما وجه خليفة رسول الله الصديق أسامة بن زيد لقتال الروم قال له ولمن معه: «يأيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تقعروا (تقتلعوا) نخلًا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له» . لذلك نجد كثيرًا من البلاد التي فتحها المسلمون، رحب أهلها بالفاتحين لما وجدوا عندهم من رحمة ورأفة وحسن معاملة، لذلك صدق من قال: «ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب»
وفي الختام نؤكد أن هذه الوصايا التي أوصى بها الخلفاء قادة الجيوش، تصلح لأن تكون قوانين لجيوش العالم على مدار التاريخ؛ لما فيها من دقة وصواب وحكمة، وهي تصلح لكل زمان ومكان، وفيها من الدروس ما يُعْتَمد في الإعداد والاستعداد، وما يفيد المقاتلين في ساحة المعركة، مما يدل على عبقرية قائليها، ونظرتهم الصائبة، وخبرتهم العميقة في فنون الحرب وإدارة المعارك
ـــــــــــــــــــــــــــــــ د . صالح العطوان الحيالي - العراق- 25-1-2019
الحرب رحى ثقالها الصبر وقطبها المكر ومدارها الاجتهاد وثقافها الأناة وزمامها الحذر ولكل شيء من هذه ثمرة فثمرة الصبر التأييد وثمرة المكر الظفر وثمرة الاجتهاد والتوفيق وثمرة الأناة اليمن وثمرة الحذر السلامة. ولكل مقام مقال ولكل زمان رجال والحرب بين الناس سجال والرأي فيها أبلغ من القتال.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معد يكرب: صف لنا الحرب قال: مرة المذاق إذا كشفت عن ساق من صبر فيها عرف ومن نكل عنها تلف ثم أنشأ يقول: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا حميت وشب ضرامها عادت عجوزاً ذات خليل شمطاء جزت رأسها وتنكرت مكروهة للثم والتقبيل وقيل لعنترة الفوارس: صف لنا الحرب.
فقال: أولها شكوى وأوسطها نجوى وآخرها بلوى.
وقال الكميت: والناس في الحرب شتى وهي مقبلة ويستوون إذا ما أدبر القبل كل بأمسيها طب مولية والعاملون بذي غدويها قلل وقال نصر بن سياد صاحب خراسان يصف الحرب ومبتدا أمرها: أرى خلل الرماد جمر فيوشك أن يكون له ضرام فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام فقلت من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: الشر حلو أوله: مر آخره.
والعرب تقول: الحرب غشوم لأنها تنال غير الجاني وقال حبيب: والحرب تركب رأسها في مشهد عدل السفيه به بألف حليم في ساعة لو أن لقماناً بها وهو الحكيم لكان غير حكيم وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب: لا حلم لمن لا سفيه له.
ونحو هذا قول الأحنف بن قيس: ما قل سفهاء قوم قط إلا ذلوا.
وقال: لأن يطيعني سفهاء قومي أحب إلي من أن يطيعني حلماؤهم.
وقال: أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار.
وقال النابغة الجعدي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا وأنشد هذا الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى هذا البيت قال له النبي صلى وقال النابغة الذبياني يصف الحرب: تبدو كواكبه والشمس طالعة لا النور نور ولا الإظلام إظلام يريد بقوله: " تبدو كواكبه والشمس طالعة " شدة الهول والكرب كما تقول العامة: أريته النجوم وسط النهار.
قال الفرزدق: " أريك نجوم الليل والشمس حية " وقال طرفة بن العبد: " وتريك النجم يجري بالظهر " وإليه ذهب جرير في قوله: والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا يقول: الشمس طالعة وليست بكاسفة نجوم الليل لشدة الغم والكرب الذي فيه الناس.
ومن قولنا في صفة الحرب: ومغبر السماء إذا تجلى يغادر أرضه كالأرجوان وكل مشطب المتنين صاف كلون الملح منصلت يماني كأن نهاره ظلماء ليل كواكبه من السمر اللذان وفي صفة المعترك: ومعترك تهز به المنايا ذكور الهند في أيدي ذكور لوامع يبصر الأعمى سناها ويعمي دونها طرف البصير وخافقة الذرائب قد أنافت على حمراء ذات شباً طرير تحوم حولها عقبان موت تخطفت القلوب من الصدور بيوم راح في سربال ليل فما عرف الأصيل من البكور وعين الشمس ترنو في قتام رنو البكر من بين الستور فكم قصرت من عمر طويل به وأطلت من عمر قصير العمل في الحرب قيل لأكثم بن صيفي: صف لنا العمل في الحرب.
قال: أقلوا الخلاف على أمرائكم فلا جماعة لمن اختلف عليه.
واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل فتثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب وقال شبيب الحروري: الليل يكفيك الجبان ونصف الشجاع.
وكان إذا أمسى يقول لأصحابه: أتاكم المدد يعني الليل.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل وسمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم: المنازعة في الحرب خور والصياح فيها فشل وما برأيي خرجت مع هؤلاء.
وقال عتبة بن ربيعة لأصحابه يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترونهم خرساً لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الحيات.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أكثر النظر في العواقب لم يشجع.
وقال النعمان بن مقرن لأصحابه عند لقاء العدو: إني هاز لكم الراية فليصلح كل رجل منكم من شأنه وليشد على نفسه وفرسه ثم إني هازها لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم موقع سهمه وموضع عدوه ومكان فرصته ثم إني هازها لكم الثالثة وحامل فاحملوا على اسم الله.
وللنعمان بن مقرن هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه - إذ تكاملت عنده الحشود وتطلع الصحابة إلى التقدم عليها -: لأقلدن أعنتها رجلاً يكون عداء لأول أسنة يلقاها.
فقلدها النعمان بن مقرن.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهزوا الفرصة فإنها تمر مر السحاب ولا تطلبوا أثراً بعد عين.
وقال بعض الحكماء: انتهز الفرصة فإنها خلسة وثب عند رأس الأمر ولا تثب عند ذنبه.
وإياك والعجز فإنه أذل مركب والشفيع المهين فإنه والله أضعف وسيلة.
وخرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك فقيل له: ما يهمك منهم! وجه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيكم.
فقال: لا إن وكيعاً رجل به كبر يحتقر أعداءه ومن كان هكذا قلت مبالاته بأعدائه فلم يحترس منهم فيجد عدوه غرة منه.
وسئل بعض الملوك عن وثائق الحزم في القتال فقال: مخاتلة العدو عن الريف وإعداد العيون على الرصد وإعطاء المبلغين أمانا على مستأمن ولا تشدهنك الغنيمة عن المحاذرة.
وفي بعض كتب العجم: أن حكيماً سئل أشد الأمور تدريباً للجنود وشحذاً لها فقال: تعود القتال وكثرته وأن يكون لها مواد من ورائها.
إن امتثال قادة الجيوش لأوامر الخلفاء والأمراء، يعد سببًا رئيسيًّا من أسباب النصر، وقد وجهت هذه الأوامر أحيانًا على شكل وصايا، يقدمها الخليفة أو الأمير لطلائع جيشه مشافهة أو مكتوبة قبل المعركة أو في أثنائها؛ لكي يكونوا على بينة من أمرهم، وترشدهم هذه الوصايا إلى الطريق الأقوم.
نذكر من هذه الوصايا الحربية التي وردت في التراث العربي:
* وصية أبي بكر الصديق "رضي الله عنه" لأسامة بن زيد حين سيره لقتال الروم.
* وصية أبي بكر الصديق "رضي الله عنه" إلى خالد بن الوليد لما جهزه لقتال المرتدين.
* وصية عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" إلى سعد بن أبي وقاص لما وجهه لقتال الفرس.
* وصية علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" إلى معقل بن قيس ، حين أرسله إلى الشام في ثلاثة آلاف مقاتل.
*وصية علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" إلى عسكره قبيل معركة صفين.
* وصية جعفر المنصور إلى عيسى بن موسى لما وجهه لحرب بني عبدالله بن الحسن.
* وصية أبجر بن جابر لبنيه إذا لاقوا عدوهم.
* وصية أكثم بن صيفي إلى بني تميم حين سارت إليهم بنو مذحج لقتالهم.
إن هذه الوصايا الحربية تحدثت عن الإعداد الجيد للمعركة، وعن أسباب النصر، وتضمنت تحذيرات وتنبيهات إلى القادة العسكريين، وسنتعرف فيما يلي على مضامين هذه الوصايا، وما دعت إليه من الإعداد المادي والمعنوي؛ لإحراز النصر في المعركة.
وصايا نبوية عامة
ــــــــــــ أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما أرسله في شعبان سنة 6 هـ إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ فقال له: "اغزوا جميعًا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، فهذا عَهْدُ اللهِ وسيرة نبيّه فيكم"
عَنِ ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ: "اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ" .
كانت تلك هي وَصَايَا الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم جميعًا عندما كان يُرسلهم لدعوة الناس إلى الإسلام، والأخذ بأيديهم إلى طريق الله تعالى، وفَتْحِِ الأبواب أمام الدعوة الإسلامية حتى تصل لكل البشر، وحتى لا يُحرَمَ أحدٌ من نُور الإسلام العظيم...
وصية الرسول بالصغار وإن كانوا مقاتلين
ــــــــــــــ لم تكن حالات الحرب والقتال لتُخرِجَ النبي صلى الله عليه وسلم عن أخلاقه السامية، وعن رحمته صلى الله عليه وسلم التي يَتَحَلَّى بها حَالَ السَّلْم؛ لذا فقد كان يرحم الغِلمان وصغار السن الذين لا يملكون أمرهم، ويأتون للحرب ضد المسلمين، أو لمعاونة سادتهم رغم أن تلك المساعدة هي من صميم أعمال الحرب، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يرحم طفولتهم؛ ففي أحداث غزوة بدر ذكر ابن إسحاق رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم في نفرٍ من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه ( أي على الماء)؛ فأصابوا راويةً لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورَجَوْا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما؛ فقالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد سجدتيه، ثم سلم وقال: "إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟!.. صدقا، والله إنهما لقريش".. - ثم خاطب صلى الله عليه وسلم الغلامين بلينٍ ورفقٍ قائلاً لهما: أخبراني عن قريش؟"
ومع أن هذين الغلامين اللذين ضُرِبَا من الجيش الْمُعَادِي - جيش المشركين – ويُمِدَّان الجيشَ بالماء، إلا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم عاتبَ صحابته الكرام لأجلهما، وأنكرَ عليهم ضربهما؛ بَلْ إنّه لم يتخذهما أسيرين مع أن الحرب على الأبواب، ومع أنهما قد يحملان بعض الأخبار إلى العدو، ولكنَّه رَحِمَ صِغَرَ سِنِّهِمَا وضَعْفِهِمَا.
وكذلك كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بنفسه؛ فَكَانَ يَنْهَى عَنْ قَتْلِ النّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمُقَاتِلَةِ، فَمَنْ رَآهُ أَنْبَتَ قَتَلَهُ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ اسْتَحْيَاهُ
وهؤلاء مع أنهم يُقَاتلون بالفعل، إلا أنهم غير بَالِغِينَ؛ وبالتّالي غير مكلَّفين، ومدفوعين بغيرهم؛ فلذلك رَحِمَهُمْ.
وصية الرسول بالقتلى وذويهم
وظهرت رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم في حرصه حتى على القتلى، وكذلك على مشاعر ذويهم؛ لذا فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَة؛ فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النُّهْبَى ، والمُثْلَة" .
وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ" .
ورغم ما حدث في غزوة أحد من تمثيل المشركين بـ حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عَمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُغَيِّر مبدأه، بل حرص على النهي عن المُثلة حتى مع المشركين، ولم يَرِدْ في التاريخ حادثة واحدة تقول: إن المسلمين مَثَّلوا بأحدٍ من أعدائهم.
وقد يَتَّخِذُ البعض قاعدة "المعاملة بالمثل" مبرّرًا لهم ليفعلوا ما يشاءون في أعدائهم، محاربين كانوا أو مدنيّين، ولكنَّ الإسلام لا يُقِرُّ القسوة أو الظلم مهما كانت المبرّرات، ولذلك لا يُطبق هذه القاعدة مع المدنيين للدولة المحاربة، حتى لو آذوا المدنيين في بلادنا!
يقول الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
قال القرطبي رحمه الله: دَلّت الآية على أنّ كُفر الكافر لا يَمنع من العدل معه، وأن المثلة بهم غير جائزة، وإن قَتلوا نساءنا وأطفالنا وغَمُّونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدًا لإيصال الغمِّ والحزن إليهم
فهل في مناهج الأرض مثل منهجنا؟!
وصية الرسول بعدم الإفساد في الأرض
ــــــــــــــــــ لم تكن حروب الرسول صلى الله عليه وسلم حروب تخريب كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يحرصون أشدّ الحرص على الحفاظ على العُمران في كل مكان، ولو كان بلاد أعدائهم؛ فقد جاء في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لجيش مؤتة: ".... ولا تَقْطَعَنَّ شَجَرَةٍ وَلا تَعْقِرَنَّ نَخْلًا ولا تَهْدِمُوا بَيْتًا"
الإعداد للمعركة
ــــــــــــــــــــــــــــ لقد أمر الله تعالى المسلمين بإعداد العدة للحرب، والاستعداد لها عند ملاقاة العدو فقال سبحانه: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} (الأنفال:60). ومن الإعداد للحرب: التهيئة لها باختيار القادة الأكفاء، ومعرفة أخبار العدو، وأخبار تحركاته، ومقدار قوته ونقاط ضعفه، وتهيئة أمراء الجند، ورفع الروح المعنوية لدى الجنود، وتزويدهم بالثقافة القتالية، وتحديد الظروف المناسبة للتحرك وبدء ساعة القتال.وعن معظم هذه المعاني أوصى الخليفة مروان بن محمد ابنه عبدالله عندما وجهه لقتال الضحاك في الجزيرة فقال له:
«تقدم في طلائعك، فإنها أول مكيدتك، ورأس حربك، ودعامة أمرك، فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالًا ذوي نجدة وبأس وصرامة وخبرة، حماة كفاة، قد صُلوا بالحرب، وتذاوقوا سجالها، وشربوا مرارًا كؤوسها. ثم أذْكِ عيونك على عدوك متطلعًا لعلم أحوالهم التي يتقلبون فيها، ومنازلهم التي هم بها، ومطامعهم التي قد مدوا أعناقهم نحوها، ومن أي الوجوه مأتاهم، أمِنْ قبل الشدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإيعاد؟ أو الترغيب والإطماع؟ مبينًا في أمرك، متخيرًا في رؤيتك، مستمكنًا في رأيك، مستشيرًا لذوي النصيحة الذين قد حنكتهم السن، وخطبتهم التجربة. وليكن في عسكرك مكبرون بالليل والنهار قبل المواقعة، وقوم موقوفون يحضونهم على القتال، ويحرضونهم على عدوهم، ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم، ويذكرونهم الجنة ودرجاتها، ونعيم أهلها وسكانها ويقولون: اذكروا الله يذكركم، واستنصروه ينصركم، والتجئوا إليه يمنعكم. وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتهيئة جندك، ووضعهم مواضعهم من راياتك، ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو سن وتجربة ونجدة على التهيئة التي أمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابه، فافعل إن شاء الله تعالى» .
الثبات في ساحات الوغى
ــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن الأمور الهامة في سير المعارك وانتصار الجيوش: الثبات في ساحات القتال، وأثناء مواجهة العدو، وعدم الفرار يوم الزحف، وهذا ما أوصى به أبجر بن جابر أبناءه بقوله: «يا بني، إن سركم طول البقاء، وحسن الثناء، والنكاية في الأعداء، فإذا استقبلتم الخميس (الجيش) فاستقبلوهم بوجوهكم، وإياكم أن تمنحوهم أكتافكم، فتطعنوا بالرماح في أدباركم، فإن أمثل القوم بُغْيةً: الصابر عند نزول الحقائق» .
الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ووصاياه عن بدء القتال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما عن بدء القتال، فقد أكد الإمام علي بن أبي طالب-كرم الله وجهه- لأكثر من قائد: ألا يبدأ بالقتال مع العدو، لأن العدو قد يستسلم أو يميل إلى الصلح، أو يدخل في التفاوض، وقد تكون الحجة على الذي يبدأ بالعدوان. قال الإمام علي- كرم الله وجهه- لعسكره قبيل معركة صفين: «لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم» . وقال الإمام علي "رضي الله عنه" لمعقل بن قيس الرياحي حين أرسله إلى الشام: «ولا تقاتلن إلا من قاتلك» .وحدد بعضهم للجيش وقت المسير والتحرك، فإن لوقت التحرك أهمية كبيرة في الإعداد للمعركة وسيرها، وحبذوا التحرك في النهار والإقامة في الليل، ولاسيما أنهم في زمن لم تكن فيه إضاءة وكواشف ليلية، وقد جعل الله الليل للسكن والراحة. فقد أشار علي "رضي الله عنه" على معقل قائلًا: «ولا تسر أول الليل، فإن الله جعله سكنًا وقدره مقامًا لا ظعنًا، فأرح فيه بدنك، وروح ظهرك، فإذا وقفت حين ينبطح السحر أو حين ينفجر الفجر، فسر علىبركة الله» وحدد علي (رض) لقائده العسكري معقل مكان وقوفه من العدو قبل المعركة فقال: «فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطًا، ولا تدن من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد ممن يهاب البأس حتى يأتيك أمري، ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم» .
وصية عمربن عبد العزيز للجراح
ــــــــــــــــــــــــــــــــ كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الجراح: إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشاً أو سرية قال: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً.
فإذا بعثت جيشاً أو سرية فمرهم بذلك
أسباب النصر أثناء المعركة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن أغلب الخلفاء وزعماء الأمم لديهم خبرة عسكرية، وقد يكون بعضهم قد خاض حروبًا عديدة قبل أن يتقلد منصبه في قيادة الأمة، لذلك تعد وصاياهم نابعة عن خبرة وتجربة قبل أن تكون تقديرية تصورية،
تقوى الله ومخافته
ــــــــــــــــــــــ فقد أوصى الخلفاء والأمراء قادة جيوشهم والجنود بتقوى الله والصبر والثبات، وذكر الله والتوكل عليه في أثناء المعركة، فقد أمر الإمام علي "رضي الله عنه" معقل بتقوى الله عند لقاء العدو فقال له: «اتق الله الذي لابدَّ لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه» . وحث سيدنا أبو بكر الصديق "رضي الله عنه" خالد بن الوليد على تقوى الله مخاطبًا إياه: «يا خالد، عليك بتقوى الله والرفق بمن معك من رعيتك» .وأكد مروان بن محمد الحرص على التقوى عندما أوصى ابنه بقوله: «فإذا قضيت نحو عدوك، واعتزمت على لقائهم، وأخذت أهبة قتالهم، فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها، وثقتك التي تأمل النجاة بها، وركنك الذي ترتجي به منالة الظفر: تقوى الله- عز وجل- مستشعرًا لها بمراقبته والاعتصام بطاعته، متبعًا لأمره، مجتنبًا لسخطه، محتذيًا سنته، والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده، وتعدي شرائعه، متوكلًا عليه، واثقًا بنصره، فيما توجهت نحوه، متبرئًا من الحول والقوة فيما نالك من ظفر، وتلقاك من عز» . وإلى جانب التقوى يعدٌّ الصبر سلاحًا قويًّا في ثبات الجنود، فالجيش الذي لا يصبر جنوده على المحن والجراح ينهزم، لذلك نجد سيدنا عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" يوصي سعد بن أبي وقاص "رضي الله عنه" عندما وجهه إلى قتال الفرس بالصبر قائلًا: «.. الصبرَ الصبرَ على ما أصابك، تجتمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين، في طاعته واجتناب معصيته» . والصبر يحتاج إلى استعانة الجند بالله تعالى على قتال العدو، وعليهم أن يلجأوا إليه بالدعاء، ويتوكلوا عليه كي ينصرهم، وقد بيَّن ذلك أبوبكر الصديق "رضي الله عنه" لخالد بن الوليد "رضي الله عنه" عندما قاتل مسيلمة الكذاب وأهل الردة: «استعن بالله على قتالهم، فإنه قد بلغني أنهم رجعوا بأسرهم، فإن كفاك الله الضاحية، فامض إلى أهل اليمامة، سِرْ على بركة الله» . ومما يُثَبِّتُ الجنود في أرض المعركة، ويبعث الطمأنينة في نفوسهم ذكر الله تعالى، لذلك حضت الوصايا قادة الجيش والجنود على الإكثار من التكبير والتسبيح والدعاء؛ لكي يزداد ثباتهم، فقد كان رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يدعو الله كثيرًا بضراعة قبل المعركة وأثناءها. وقد مضى الخلفاء وغيرهم من الأمراء على هذه السنة، فتجدهم يوصون قادة الجيوش بذكر الله والدعاء، لما لهما من أهمية في صمود المقاتلين، فاتصالهم بالله تعالى في أرض المعركة يقوي عزيمتهم، ويزيد من إيمانهم وثباتهم.
وصية مروان بن محمد لابنه
ـــــــــــــــــــــ ومن الوصايا التي جاء فيها الأمر بذكر الله والدعاء وصية مروان بن محمد إلى ابنه، إذ طلب منه أن يأمر جنده بالتكبير والتسبيح والدعاء برسالته التي وجهها إليه: «مُرْ جندك بالصمت وقلة التلفت عند المصاولة، وكثرة التكبير في نفوسهم، والتسبيح بضمائرهم، وألا يظهروا تكبيرًا إلا في الكرات والحملات، وعند كل زلفة يزدلفونها، وأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن، وليذكروا الله في أنفسهم، ويسألوه نصره، وإعزازهم، وليكثروا من: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا الباغي، واكفنا شوكتهم المستجدة، وأيدنا بملائكتك الغالبين، واعصمنا بقوتك من الفشل والعجز، إنك أرحم الراحمين» .
وصية الصديق لاسامة بن زيد
ـــــــــــــــــــ عندما وجه خليفة رسول الله الصديق أسامة بن زيد لقتال الروم قال له ولمن معه: «يأيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تقعروا (تقتلعوا) نخلًا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له»
حسن معاملة الجند
ــــــــــــــــــــــــ ومن أسباب النصر: حسن معاملة القائد لجنوده وتعاونه معهم، واستشارتهم، فكلما كان القائد قريبًا من جنده، يرفق بهم، ويسأل عن أحوالهم، ويستشيرهم داخل المعركة وخارجها، كانوا أقوياء يقاتلون صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص، ويلتفون حول قائدهم يأتمرون بأمره، ويكونون رهن إشارته. ولقد فطن لهذا الأمر سيدنا أبوبكر الصديق "رضي الله عنه" ، فأوصى خالد بن الوليد "رضي الله عنه" بذلك عندما أرسله إلى المعركة قائلًا: «يا خالد، عليك بتقوى الله والرفق بمن معك من رعيتك، فإن أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أهل السابقة من المهاجرين والأنصار، فشاورهم فيما نزل بك ثم لا تخالفهم» .
تحذيرات ونواهٍ للجيوش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن الجيوش التي تدافع عن الحق وتحمي أرضها وتدفع العدو الظالم، عليها أن تتمسك بأخلاق المقاتلين البواسل، فإذا كان الهدف هو دحر العدو وقتال جنوده، والوقوف في وجهه، فليس هنالك من حاجة للتدمير والقتال غير المشروع. ولقد حرص المسلمون على أن تكون حروبهم شريفة بحيث يقفون للعدو بالمرصاد، ويكبدونه خسائر فادحة، ويدحرونه في أرض المعركة، إلا أنهم لا يقتلون طفلًا ولا امرأة ولا شيخًا، ولا يهلكون الحرث والنسل، ولا يحرقون المزروعات، ولا يقتلون الحيوانات.
أما غير المسلمين كالصهاينة والمستعمرين، فإنهم في حربهم يحرقون الأخضر واليابس، ويقتلون كل من يجدونه بآلتهم الحربية الفتاكة. وقد تعلَّم المسلمون هذه الأخلاق الرفيعة من الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" ، ومن الخلفاء الراشدين الذين كانوا ينهون الجيوش الإسلامية عن ارتكاب مثل هذه الجرائم الشنيعة.فعندما وجه خليفة رسول الله الصديق أسامة بن زيد لقتال الروم قال له ولمن معه: «يأيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تقعروا (تقتلعوا) نخلًا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له» . لذلك نجد كثيرًا من البلاد التي فتحها المسلمون، رحب أهلها بالفاتحين لما وجدوا عندهم من رحمة ورأفة وحسن معاملة، لذلك صدق من قال: «ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب»
وفي الختام نؤكد أن هذه الوصايا التي أوصى بها الخلفاء قادة الجيوش، تصلح لأن تكون قوانين لجيوش العالم على مدار التاريخ؛ لما فيها من دقة وصواب وحكمة، وهي تصلح لكل زمان ومكان، وفيها من الدروس ما يُعْتَمد في الإعداد والاستعداد، وما يفيد المقاتلين في ساحة المعركة، مما يدل على عبقرية قائليها، ونظرتهم الصائبة، وخبرتهم العميقة في فنون الحرب وإدارة المعارك