GuidePedia


في برنامجنا الشعر بين عروضه وجمالياته
دراسات معمقة عن عروض الشعر وبحوره وأسرار جمالياته.
وأول حلقة مع الشاعر واللغوي الروائي
عبدالحميد ضحا

======
(الحديث عن أسس لا بد منها في فن موسيقاالشعر )
================================

بدأ  الشاعر القدير الأستاذ اللغوي والروائي  عبد الحميد ضحا بالتحية
يسرُّني الحضور مع حضراتكم أهلَ الأدب والإبداع، ويشرِّفني الحضور مع أهل الحرف العربي، ويسعدني أن يكون الحديث عن علم فريد لا مثيل له؛ علم العروض، نناقش مسائله، ولِمَ يهابه أهلُ العربية، علماؤهم ومبتدئوهم؟ ولماذا هو صعب على بعض أعلام العربية في حين أنه كالماء الزُّلال على بعض المبتدئين من ذوي الموهبة؟! وكيف يُتقنه المرء ويستطيع وزن الأبيات بمجرد السماع دون الحاجة إلى التقطيع؟
وجماع الإجابة عن ذلك كله أن العروض علم النغم؛ فلن تستطيع فَهمه وإتقانه إلا بالاعتماد على تمييز نغمات البحور بالأذن بمجرد السماع، أما التقطيع والأمور النظرية فمجرَّد عامل مساعد تستخدمه إذا كان ثَمَّةَ مشكلةٌ في الوزن أو ضبط الكلام فقط، أما الاعتماد على معرفة الأوزان بالتقطيع دون النغم فهذا الذي أتعب كل دارسي العروض، علماء العربية ومن دونهم، وجعل العروض علمًا شديد المراس على من اتَّبع تلك الطريق.
فالنغمَ النغمَ هو الأساس الذي يبنى عليه، ودون ذلك عناء ومشقة!
ونشرع الآن في الإجابة عن الأسئلة الكريمة.

سؤال من الشاعرة سحر قصيبة
استاذ عبدالحميد ضحا
لوسمحتم
بإلقاء الضوء بشكل مختصر
ماالمقصود
بموسيقا الشعر ؟
وهل للشعر موسيقا ؟

جواب الشاعر عبد الحميد ضحا

مرحبا بالأديبة الفاضلة الأستاذ سحر قصيبة: نعم للشعر موسيقا بها يتميز عن النثر، وتستطيع الأذن الموهوبة أو المدربة تمييز نغمات البحور كما يستطيع الشم تمييز العطور، وسؤالك يحتاج إلى سماع فهذه محاضرة لي تشرح هذا الأمر على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=Z5rTO4Gadj8



جواب استاذ عبد الحميد
علم العَرُوض: هو ميزانُ الشِّعر، وهو علمٌ وُضِع لمعرفة أوزان شعر العرب بقواعدَ يُعرَف بها الأوزانُ، وما يَعتَريها من تغيُّرات، وما يتعلَّق بها من أحكام، وبها يُعرَف صحيح الوزن من مكسوره.


البحور الشعرية
البحور: هي الأوزان الشعرية أو الإيقاعات الموسيقية المختلِفة للشعر العربيِّ، وسمِّي البحر بهذا الاسم؛ لأنه يُشبِه البحر الذي لا يتناهى بما يُغترف منه في كونه يوزَن به ما لا يتناهى من الشِّعر.
وهذه الإيقاعات الموسيقية الشعرية اعتمدها الشعراء، فألِفتْها الآذان، وطَرِبت لها النفوس، فاعتمدها الشعراء طَوال قرون عدَّة، حتى جاء الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيديُّ، فاستخرج صورها الموسيقية وسَكَبها في قوالبَ سمَّاها بحورًا، وأعطى كلَّ بحر منها اسمًا خاصًّا ما زال يُعرَف به حتى يومِنا هذا.


كم عدد البحور الشعرية؟
ينتشر في كتب العروض- خاصَّةً المتأخِّرة- أن عدد بحور الشعر المستعمَلة خمسةَ عَشَرَ بحرًا عند الخليل، وستَّةَ عَشَرَ بحرًا عند غالب العروضيين؛ فقد زاد الأخفش مستدرِكًا بحرَ المتدارَك على الخليل، وقد انتشرت هذه المقولة في مصنَّفات العروض، حتى صارت من المسلَّمات العروضية، وتجدهم يذكرون أيضًا أن الأخفش قد أنكر ورود بحر المضارع في شعر العرب؛ فلم يُثبِته من بحور الشعر.
وثمةَ نقطتان جديرتان بالبحث، وعدم الانسياق وراء العروضيين بدون مناقشتهم فيهما:
أولًا: هل عدد البحور المستعمَلة عند العرب ستَّةَ عَشَرَ بحرًا؟
ثانيًا: هل فعلًا كان الخليل يجهل بحر المتدارك؟ وما مشكلة هذا البحر خاصة؟


هل عدد البحور المستعمَلة عند العرب ستَّةَ عَشَرَ بحرًا؟
بدايةً، ثَمَّةَ سؤال مهمٌّ جدًّا: ما الحدُّ الفاصل بين المستعمَل والمهمَل؟ فقد استخرجنا من الدوائر العروضية ستةَ عَشَرَ بحرًا مستعمَلًا، وستَّةً مهمَلة، فلِمَ أطلق العروضيون عليها: هذا مستعمَل وذاك مهمَل؟
قال العروضيون: إن العرب استخدمت هذه الستةَ عَشَرَ بحرًا، ولم تستعمل هذه الستَّ، فهي مهمَلة.
فنردُّ: لا بد أن يكون المستعمَل ما قَرَضَ على وزنه العربُ قصائدَ كثيرةً، أو قصائدَ ولو قليلةً، والمهمَل ما لم يقرض العرب على وزنه قصائدَ، فأين ما ورد عن العرب في الأبحر الثلاثة: المضارع والمقتضَب والمجتثِّ؟ إنه لم يَرِدْ عن العرب قصيدةٌ واحدة على هذه الأبحر الثلاثة؛ بل إنه لم يَرِدْ قطعةٌ شعرية لا قصيدة؛ فإن ما ذَكَره العروضيُّون أنه ورد منها أبيات متفرِّقة؛ ربما كانت من وَضْعِ العروضيِّين، حتى إن كلَّ البحور المستعمَلة لها أكثرُ من ضرب، إلا هذه الثلاثةَ الأبحرِ (المضارع والمقتضب والمجتثّ)؛ فكان عليكم أن تَعدُّوها مهمَلةً، لا مستعمَلة.
وذلك بحر المتدارَك الذي سيطول النقاش حولَه حين الحديث عنه، أين ما ورد عن العرب منه؟ إنه لم يرد عن العرب قصيدةٌ واحدة منه، وثَمَّةَ الادِّعاءُ الشهير بأنه استُدرك على الخليل- وسنناقشه بالتفصيل كما ذكرنا- فكان على قواعدكم أن تَعُدُّوه مهمَلًا.
أما بحر الرجز الذي أتى عن العرب فيه الأُرْجُوزات الكثيرة جدًّا، فلِمَ تُطلِقون على مؤلِّفها راجزًا لا شاعرًا؟
وعليه؛ فعلينا إنعام النظر فيما زَعَمَه العروضيون من عدد البحور المستعمَلة والمهمَلة، خاصَّةً أن البحورَ تختلف من عصر إلى آخَرَ في إقبال الشعراء عليها؛ فبحرُ المتدارك الذي- على أكثرِ تقدير- نَدَر كتابةُ الجاهليِّين عليه حتى العصر العباسيِّ، صار الآن جلُّ الشعراء يكتبون عليه، واشتَهر جدًّا.
هذا تحرير للمسألة، وما يقرِّره العلم والعقل، أما في الواقع، فالأمر غير ذلك، ولا أدري هل هي عبقريَّة الخليل؟ أم أن الخليل عَلِمَ شيئًا لم يَعلمْه أحدٌ غيره؟! فإنه قد عدَّ من البحور المهمَل والمستعمَل، دون تحديد القواعد العلمية للحدِّ الفاصل بينهما، وما أَعْجَبَ ما فَعَل الخليلُ! لقد حيَّر كلَّ ذي لُبٍّ بعدَه! فإن ما عَدَّه مهمَلًا من البحور المستخرَجة من الدوائر العروضية، ظلَّ مهمَلًا، وكل محاولات المولَّدين لاستعمالها فَشِلت، أما ما عَدَّه مستعمَلًا- مع أنه لم يَرِد عن العرب منه قصيدة واحدة أو قطعة؛ كالمضارع والمقتضب والمجتثِّ- فقد استعمله الشعراء بعده؛ فهذا أبو نواس كتب على البحور الثلاثة، وصولًا إلى العصر الحديث الذي شَهِد أَوْجَ المحاولات للخروج على بحور الخليل، فقد انتشرت هذه البحور الثلاثة- التي تَجزِم القواعدُ العقلية بإهمالها- كما لم تنتشر من قبلُ، وكَتَب عليها كبارُ الشعراء المُحدَثين، وسيظلُّ الباحثون المحقِّقون يبحثون عن فكر الخليل؛ لماذا صنَّف هذه الأبحر الثلاثة مستعمَلةً؟!
ونخلص إلى أن عدد الأبحر المستعملة التي وصلتنا قصائدُ عليها من الجاهلية حتى عهد اختراع العروض اثنا عَشَرَ بحرًا، ثم ظهر في العصر العباسيِّ، إلى أن انتشر جدًّا في العصر الحديث، استعمالُ بحر المتدارك، ثم المجتثِّ والمقتَضَب، ومن بعدها بحرُ المضارع، أقلُّ البحورِ كتابةً عليه حتى الآن.
ومن ثمَّ؛ فثَمَّةَ أبحرٌ مشهورة في كلِّ العصور- وإن كانت تختلف درجة انتشارها من عصر لآخَرَ- وهي الطويل والبسيط والكامل (ذكر المعرِّي أن أكثر أشعار العرب من الطويل والبسيط والكامل)، والرجز والخفيف والوافر والمتقارب والرَّمَل، ثم ما ورد قليلًا: الهَزَج والسريع والمنسرح والمديد، وآخرها المتدارك والمضارع والمقتضب والمجتثُّ.




أما الشعراء، فلم يلتزموا بهذه الأبحر الستةَ عشَرَ؛ حيث رأوا أن حصر الأوزان في هذا العدد من البحور يُضَيِّقُ عليهم مجال القول، فحاولوا الخروج عليها- وهو ما سنتحدَّث عنه في باب تطوُّر الأوزان- ولكن لم يَصمُد وزنٌ حتى الآن خارجَ هذه الأبحر، فكلَّما ظهر وزنٌ اشتَهر وأخذ وقتَه بين الشعراء مدَّةً- طالت أو قصرت- ثم يَطوِيه النِّسْيَان؛ كالدُّوبَيْتِ وغيره، ويكفي أن ترى بداية ظهور الشعر الحرِّ؛ إذ أعلن من يكتبون عليه في فترة الستينيَّات والسبعينيَّات من القرن العشرين الميلاديِّ أن الشعر العموديَّ انتهى، «وانتهى الشعر أبو ضلفتين» كما كانوا يتهكَّمون عليه، وصار اتِّجاه وزارات الثقافة اعتماد ذلك، وسيطر عليها من يكتبون شعر التفعيلة، وانظر الآن- ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين الميلاديِّ- تجد أن جلَّ الشعراء عادوا بقوَّة إلى الشعر العموديِّ، خاصَّةً الشعراءَ الشباب، وصار عدد الشعراء الشباب الذين يلتزمون بالشعر الحرِّ دون العموديِّ قليلًا- إن لم يكن نادرًا- وهذا لأن هذه الأوزان أَلِفَتْها أذواقُ الشعراء ومحبِّي الشعر على مرِّ العصور، وتأثَّرتْ بها، وساعدهم في ذلك الفَكَاك من إسار الثقافة الرسمية والإعلام الرسميِّ بظهور الإنترنت، وسنتحدَّث بالتفصيل عن هذا الموضوع حين الحديث عن تطوُّر الأوزان.



الخليل وبحر المتدارك؟
أرى أن العروضيين الذين قالوا باستدراك الأخفش للمتدارك على الخليل قد بالغوا في هذا الأمر، فلا يُعقَل أن يكون صحيحًا، وسبب انتشار هذا الزعم الاعتمادُ على النقل في مصنَّفات العروض دون تحرير المسائل وتمحيصها، وإليكَ التفصيلَ:
1) إن الخليل الذي استخرج من الدوائر كلَّ البحور، مستعمَلةً ومهمَلة، أيُعقَل أن يَعجِز عن استخراج المتدارك، ويتركَ الدائرة الخامسة على بحر واحد (المتقارب) دون التفكير في وجود بحر آخَرَ، ولو مهملًا؛ بل إنَّ استخراج المتدارك يُعتبَر أسهلَ من استخراج البحور الأخرى جميعِها، ويَستطِيع من يَفهَم كيفية فكِّ الدوائر استخراجَ المتدارك من الدائرة الخامسة بكل سهولة ويُسر، فكيف بالخليل مخترع الدوائر؟!
ومن ثمَّ فإن مجرَّد ذكر الخليل للدائرة الخامسة، يؤكِّد أنه كان يعرف المتدارك، ولو لم يجد له شاهدًا، فكان سيذكره ضِمْنَ البحور المهمَلة.
2) ثَمَّةَ سؤال مهمٌّ: مَن أوَّلُ مَن ذَكَرَ هذا الأمر- أن الأخفش استدرك المتدارك على الخليل- هل الأخفش نفسُه ذكر ذلك؟ أين المصدر؟ هل تلامذة الأخفش ذكروه؟ لم نجد ذلك!
فعلى العروضيين البحث عن أول مَن ذكر هذا الأمر الذي صار من المسلَّمات!
أما الأخفش نفسه، فكتابه العَروض خالٍ تمامًا عن مجرَّد التلميح بما يُفهَم منه استدراكه له، وقد أنكر الدُّكتور أحمد عبد الدَّايم محقِّق (عروض الأخفش) هذا الادِّعاء وناقشه وأثبت بطلانه، فإن لم يكن له كتاب آخَرُ في العروض لم يصل إلينا، فهذا حجة؛ فلا يعقل أن يستدرك الأخفش المتدارك، ولا يَنسُب هذا الشرفَ إلى نفْسه، ولا أن يَنسُبه إليه تلامذتُه ومن جاء بعده- إن علموا ذلك- كابن جنِّي، وحماد الجوهريِّ، وابن عبد ربِّه، والدمنهوريِّ، والتبريزيِّ، وغيرهم؛ مع أنهم نسبوا كثيرًا من الآراء إلى الأخفش في مواضعَ شتَّى مِن مؤلَّفاتهم العَروضيَّة.
حتى إن ابن القطَّاع (433- 515هـ) الذي ألَّف كتابه «البارع في علم العروض»، قال حين حديثه عن المتقارب (ص: 206): «وقدْ أخْرج بعضُهم مِن بحر المتقارب جنسًا يُسمَّى المخترع، ويسمَّى الخبب وركض الخيل»، ولم يَنسُبْه إلى أحد، على الرغمِ مِن نِسبة كثير مِن الآراء إلى الأخْفش، فلو كان يعلم أنَّه صاحبه، لنسبه إليه، وهذا ما لم يفعله.
3) ذكر القفطيُّ في «إنباه الرواة على أنباه النحاة (1/377، 378)» ما نصُّه: «وللخليل بن أحمد قصيدة على «فَعِلُن فَعِلُنْ» ثلاثة متحركات وساكن، وله قصيدة أخرى على «فَعْلُنْ فَعْلُنْ» متحرك وساكن، فالتي على ثلاثة متحركات وساكن قصيدته التي فيها:
سُئِلُوا فَأَبَوْا، فَلَقَدْ بَخِلُوا
فَلَبِئْسَ لَعَمْرُكَ مَا فَعَلُوا

أَبَكَيْتَ عَلَى طَلَلٍ طَرَبًا
فَشَجَاكَ وَأَحْزَنَكَ الطَّلَلُ

والتي على «فَعْلُنْ» ساكنة العين قوله:
هَذَا عَمْرٌو يَسْتَعْفِي مِنْ
زَيْدٍ عِنْدَ الْفَضْلِ القَاضِي

فَانْهَوْا عَمْرًا إِنِّي أَخْشَى
صَوْلَ اللَّيْثِ العَادِي الْمَاضِي

لَيْسَ الْمَرْءُ الحَامِي أَنْفًا
مِثْلَ الْمَرْءِ الضَّيْمِ الرَّاضِي

 فاستخرج المُحدَثون من هذين الوزنين وزنًا سمَّوه «المخلَّع»، وخلطوا فيه من أجزاءِ هذا وأجزاء هذا».
فلو صحَّت نسبة هذه الأبيات للخليل- وهي على المتدارك كما ترى- لكانت دليلًا قاطعًا على من يجادل في هذا الأمر، وإلا فما ذكرناه فيه الكفاية من إثبات معرفة الخليل للمتدارك، وأنه لم يكن يجهله.




سؤال من الشاعر محمد حافظ
ما الحد الأدنى من علم العروض الذي لا غنى عنه للشاعر ؟
وهل ينبغي للشاعر الإلمام بالعروض مصطلحات وزحافات وعلل؟

جواب الشاعر عبد الحميد ضحا
مرحبا شاعرنا الكبير الأستاذ محمد حافظ، سأذكر تعليقا عن أهمية العروض فيه تفصيل ذلك.
سؤال من الشاعر ظافر جمول؟
ياريت نعرف من حضرتك مقتطفات كتابية لو سمحت

جواب الشاعر عبد الحميد ضحا

ج عبد الحميد ضحا
ظافر جمول العروض والبحور الشعرية تدور حول الموسيقا، وسأذكر منها بعض المقتطفات في تعليق عام.



وتابع الاستاذ بالشرح
أهمية علم العروض:
بدايةً، نسأل سؤالًا: هل يسع الشاعرَ أو الناقدَ أو الأديبَ أو طالب العربية عامَّةً أن يجهل العَروض؟
الإجابة: لو رَضِي أن يَجهَله، لسار في طريق الأدب على أرض رَخوة؛ فالشعر يفضح من يَجهَل موسيقاه؛ فالموسيقا في الشعر حسَّاسة جدًّا، تتأثَّر بأيِّ خطأ في القراءة، فتختلُّ ويَحدُث نشازٌ لا تُجيزه قوانين الموسيقا الشعرية. لذا؛ يَلزَم لقراءة الشعر أن تكون القراءةُ صحيحةً تمامًا من حيث النحوُ والصرفُ وضبط الكلام.
إن هذا العلم الموسيقيَّ التذوُّقيَّ، السهلَ بطبيعته، الصعبَ بطريقته- يَصقُل صحَّةَ الطَّبع وإرهافَ السمع.
وإن علم العروض لَيكتسبُ أهميته من أهميَّة الشعر؛ فلن يصيرَ الشاعر أو الناقد أو المهتمُّ بالشعر مُتقِنًا إلا بإتقانه العروض، وتتفاوت أهميَّته بين طالبِيه؛ خاصةً أنه يحتاج إلى قدر من سلامة الطبع والحسِّ النغميِّ والموسيقيِّ، أو كما يقال: الأذن الموسيقية، وذلك ما جعل بعضَ أعلام العربية وأئمَّتها يَزهدون فيه، ويظلُّ يؤرِّقهم لعِظَم الحاجة إليه، فهذا العلَّامة محمود شاكر- رحمه الله- ذكر أن أحد تلامذته الشعراء حبَّب إليه علم العروض بعد أن كان يصُدُّ عنه معرِضًا، فأقبل عليه بعد هجْر طويل جدًّا. تخيَّل كم كان سيفقد العلَّامة محمود شاكر لو ظلَّ بعيدًا عن العروض؟ فكيف كان سيتعامل مع الشعر؟!
وهذا علَّامة العصر الحديث في العربية محمد محيي الدين عبدالحميد في تحقيقاته الفريدة، كان يقلِّب أبيات الشعر على كلِّ أوجهها ويُفيض من بحر غزير، وقلم سيَّال، إلا العروضَ، حتى إنه من ضمن المرَّات القليلة التي تعرَّض فيها لوزن بيت شعريٍّ في كتابه «منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل» قال في أول بيت في الكتاب:
أقلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ والعِتَابَنْ
وقولي إن أصبتُ: لقد أصابنْ

قال: «هذا بيت من الطويل»، ومعلوم أن البيت من الوافر.
وهاك حادثةً أَزْرَت بأحد أئمَّة الأدب بسبب بيت شعر كَسَر وزنه:
وَفَدَ على الأندلس أبو عليٍّ القاليُّ- صاحب الأمالي والنوادر- أيَّامَ الناصر أميرِ المؤمنين عبدالرحمن، فأمر ابنُه الحكم- وكان يتصرَّف عن أمر أبيه كالوزير- عامِلَهم ابن رُمَاحِسَ أن يجيء مع أبي عليٍّ إلى قُرطبةَ، ويتلقَّاه في وفد من وجوه رَعِيَّته ينتخبهم من بياض أهل الكورة؛ تكرمةً لأبي عليٍّ، ففعل، وسار معه نحوَ قرطبة في موكب نبيل، فكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم، ويتناشدون الأشعار، إلى أن تحاوروا يومًا وهم سائرون أدب عبدالملك بن مروانَ ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل، وإنشاده بيتِ عبدةَ بنِ الطبيب من البسيط:
ثُمَّتَ قُمْنَا إِلَى جُرْدٍ مُسَوَّمَةٍ
أَعْرَافُهُنَّ لِأَيْدِينَا مَنَادِيلُ

وكان الذاكر للحكاية الشيخَ أبا عليٍّ، فأنشد الكلمة في البيت: «أعرافها لأيدينا مناديل» «وأعرافها» تكسر الوزن، فأنكرها ابن رفاعة الإلبيريُّ، وكان من أهل الأدب والمعرفة، وفي خُلقه حرج وزعارة، فاستعاد أبا عليٍّ البيت متثبِّتًا مرَّتين، في كلتيهما أنشده «أعرافها»، فلوى ابن رفاعة عِنانه منصرفًا وقال: «مع هذا يوفد على أمير المؤمنين، وتُتجشَّم الرحلة لتعظيمه، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصِّبيان فيه؟! والله لا تَبِعتُه خُطوة»، وانصرف عن الجماعة، ونَدَبه أميرُه ابن رُماحس ألَّا يفعل، فلم يجد فيه حيلة، وكتب إلى الحكم يعرِّفه ويصف له ما جرى لابن رفاعة ويشكوه، فأجابه على ظهر كتابه: الحمد لله الذي جعل في باديةٍ من بوادينا من يخطِّئ وافدَ أهل العراق إلينا، وابنُ رفاعة أولى بالرضا عنه من السخط، فدعْه لشأنه، واقدم بالرجل غيرَ منتقِص من تكرمته؛ فسوف يُعليه الاختبار إن شاء الله تعالى أو يحطُّه».

وهاك حادثةً أخرى حكاها عزُّ الدين التنوخيُّ في كتابه «إحياء العروض ص5» وقعت لثلاثة من رجال العلم، نشروا ديوان حافظ إبراهيم وضبطوه وصحَّحوه؛ ولكنهم التبس عليهم مطلع القصيدة فظنُّوه من بحر الرجز، وهو كسائر أبيات القصيدة من السريع، وبيت المَطلَع هو:
ما لي أَرى الأَكمامَ لا تُفْتَحُ
وَالرَّوضَ لا يزهو وَلا يَنْفَحُ

وَالطَّيرَ لا تَلهو بِتَدويمِها
في مُلكِها الواسِعِ أَو تَصدَحُ

وَالنيلَ لا تَرقُصُ أَمواهُهُ
فَرحى وَلا يَجري بِها الأَبطَحُ

وَالشَّمسَ لا تُشرِقُ وَضَّاءَةً
تَجلو هُمومَ الصَّدرِ أَو تَنزِحُ

فقد ضبطوا «تُفْتَحُ» وهي عروض البيت بتشديد التاء المكسورة مضارع «فتَّح» (تُفَتِّحُ)، وضبطوا مثلَها يَنْفَحُ (ينفِّح)، وبذلك يغرق البيت في بحر الرجز، وسائر القصيدة بعده من السريع، ولو أنهم أنشدوا البيت وفيه «تُفْتَحُ» المضارع المجهول للفعل «فَتَحَ» الثلاثيِّ، و«يَنْفَحُ» مضارع الفعل «نَفَحَ»، لكان البيت من السريع كأشقَّائه، ولَمَا خطَّأ الناشرون في شرح البيت حافظًا بقولهم: «ويلاحظ أننا لم نجد في كتب اللغة «نفَّح» بتشديد الفاء؛ فلعلَّ حافظًا رأى هذه الصيغة في كلام بعض المولَّدين» أهـ.
وهاتان الحادثتان يسيرتان بجانب ما نراه اليوم من محقِّقين- مدَّعين- لا يفهمون شيئًا في العروض، فيضبطون البيت ويزنونه على غير بحره؛ بل رأيت دواوين شعرية ينسب محقِّقها القصيدة لبحر غير بحرها؛ بل إن الحكاية التي ذكرها التنوخيُّ عن قصيدة حافظ إبراهيم، وجدتُ الخطأ نفسَه في الموسوعة الشعرية؛ بل إنهم كتبوا أن القصيدة كلَّها من بحر الرجز، ولا يخفى أنها من السريع، فما أقبحَه من خطأ!


وهذا الذي نذكره يدلُّك على أن العروض ليس تَرَفًا؛ بل إنه علم لا غنى عنه لمن له صلة بالعربية وآدابها، وبدونه سيظلُّ في شقاء وتوتُّر؛ إذ إنه سيكون ضعيفًا في جانب من أهم جوانب العربية؛ الشعر، وما أدراك ما الشعر؟!
أما أهمِّيَّتُه للشاعر، فإنه يحتاجه لمعرفة الوزن الصحيح من الفاسد، ولصَقْلِ مَوهِبته، وتهذيبها، وتجنيبها الخطأَ والانحرافَ في قول الشِّعر، ولا يَحتجُّ أحدٌ بأن الطباع السليمة تُدرك الفرق بين صحيح أوزان الشعر وفاسدِه، ولا يحتاجُ إلى استعمال قانون في ذلك؛ لأن الطباع السليمة مهما بلغت- خاصَّةً في هذه الأزمنة- فإنها ربَّما وقعت فيما لا يقع فيه الدارس الخبير؛ لأن البحور قد تتشابه بدخول الزِّحاف عليها، فلا يشعر ذو الطَّبع السليم بالفرق بين البحرين المتشابهين كالكامل إذا دخله الإضمارُ ربما اشتَبه بالرَّجَز السالم، وكاختلاط الرجز بالسريع فيَكثُر من ناظمي المنظومات العلمية الانتقال إلى السريع في أُرجوزاتهم، وكمجزوء الوافر إذا دخله العَصْبُ يشتبه بالهزج، والكلُّ مقبول عند الطَّبع، وسيأتي بيان هذا كلِّه.


سؤال مهم: هل من يتعلَّم العَروضَ، ويستطيع نَظم الكلام على البحور في إطار نغميٍّ موسيقيٍّ يَصير شاعرًا؟
إننا يمكِننا أن نقسِّم الكلام إلى نَظم ونَثْرٍ، فالنَّظم هو الموزون على البحور أو التفعيلات، والنثر ما سوى ذلك، وكلاهما- النظم والنثر- يتنوَّع الكلام المكتوب بهما إلى كلام بليغ ودونَه، إلى أن نصل إلى الكلام العلميِّ الجافِّ الخالي من أيِّ شعور أو عاطفة أو خيال أو صورة بليغة، وعليه فثمَّةَ فرقٌ بين النظم المجرَّد والشعر.
فالنظم المجرَّد: هو الكلام الموزون دون شعور أو عاطفة أو خيال أو صورة بليغة، ويكون تركيبه بطريقة لا يُقصَد بها إلا المحافظة على الوزن والإيقاع، كانتظام حبَّات العِقد في الخيط، دون أن يكون فيه عاطفة أو خيال، أو روح أو حياة؛ كالمنظومات العلمية والشعر الفاقد للحياة والشعور.
أما الشعر، فإنه يَفيض بالشعور الحيِّ، والعاطفة الصادقة، والخيال البديع، فيؤثِّر في مشاعر المتلقِّي، ويَجذِبه ليَسبَح معه في بحره.
فلنتوقَّف إذن لنتحدَّث قليلًا عن مفهوم الشعر؛ حتى لا يظنَّ أحدٌ أنه مجرَّد كلام موزون.



مداخلة من الشاعر ظافر الجمول
عبدالحميد ضحا
لا اوافقك الراي مع انني اكتب العمودي واحفظ بحوره جيدا
يوجد نثر باهر وعميق وحكيم وله رواده ومدارسه وقد أتقنوه والتزموا بقواعده
جواب و
مداخلة من الشاعر عبد الحميد
أتفق معك في ذلك وذكرته وطوال التاريخ هناك أفذاذ يكتبونه ربما فاقوا الشعراء، والقرآن الكريم نفسه نثر؛ فما الذي يزري بالنثر ليتحاشاه الأدباء ويريدون جعل كل كلام بليغ شعرا. اأنا فصلت ذلك في تعليقي.


سؤال من الاستاذ نبيل غيبور
هناك لغط كبير بوصف النثر وقواعده فهل للنثر حدود وخط بياني محدد ....وهل يقل النثر عن الشعر العامودي وبحار قوافيه.....لوسمحت الشرح باستفاضة لأن كثر ينتظرون ردك شاكرا لك حسن الإصغاء....

جواب استاذ عبد عبد الحميد ضحا
مرحبا أستاذ نبيل، سأوجز الأمر مع أنه يحناج لتفصيل بسبب اللغط الدائر حول هذه المسألة: كيف بدأت قصيدة النثر؟ وما مفهومُها؟
بدأ ما يسمَّى قصيدة النثر في لبنان، ولا نعلم تحديدًا من بدأها؛ ولكن المعروف أن مجلة «شعر» تبنَّتها وراحت تدعو لها، فاستجاب بعض الأدباء لهذه الدعوة، التي كان مضمونُها: أن الوزن ليس مشروطًا في الشعر؛ وإنما يمكِن أن نسمِّيَ النثر شعرًا؛ لمجرَّد أن يوجد فيه مضمونٌ معيَّن، أطلقوا على هذا المضمون «الموسيقا الداخلية»، وأخذوا يتمسَّحون في كلِّ كلمة أو أمر يوهم القارئ أن هذا النثر شعرٌ، فأخذوا يكتبون النثر- الذي لا ينتطح فيه عنزان أنه نثر- مقطَّعًا على أسطر مثل كتابة الشعر الحرِّ، ثم طبعوا هذا النثر في كتب وكتبوا على الغِلاف كلمة «شعر»، وأخذوا يُطلقون على نثرهم هذا «قصيدة النثر» أو «الشعر المنثور».
فأحدَثَ ما فعلوه كثيرًا من الالتباس في ذهن القارئ غير المختصِّ، الذي لا يدرك الأوزان، فصاروا يخلطون بينه وبين الشعر الحر الموزون، الذي يبدو ظاهريًّا وكأنه مثلُه، فالكتابةُ مقطَّعة على أسطر كالشعر الحرِّ، لا متَّصلة كالنثر، وتسميته «قصيدة»، وعلى الغِلاف «شعر»، فوَهم كثيرون أن الشعر الحرَّ وقصيدة النثر شيء واحد، عبارة عن نثرٍ لا وزنَ له؛ ولا يلام القارئ العاديُّ على ذلك؛ فإنه ليس من أصحاب الموهبة أو الذائقة الشعرية وموسيقا الشعر.

ما معنى قصيدة النثر؟
هو اسم غريب مركَّب من نقيضين أو نوعين مختلفين؛ فالشعر والنثر كالليل والنهار لا يلتقيان، والكلام العربيُّ إما موزون فيلتحق بالشعر، أو غير موزون فيلتحق بالنثر، وإليك هذه النقاط:
- حقيقة هذه الدعوى تقليل شأن النثر، والبلغاء من الخطباء والكتَّاب والأدباء لم يحاول أحدُهم ادِّعاءَ الشعر مهما بلغ كلامُه من البلاغة
- ليس ثَمَّةَ ما يميِّز الشعرَ عن النثر إلا الموسيقا.
- قصيدة النثر: أين الحدود التي أحاكمه بها؟ سيقولون: الموسيقا الداخلية، إذن؛ من يَحكُم هذه الموسيقا المدَّعاة؟ وما القواعد الحاكمة لها؟ فصار الأمر كما نرى: كلُّ دَعِيٍّ يَكتُب ما يشاء ويَلزق باسمه لقب «الشاعر»! ولو رفضتَ أو نقدت تفاهة ما كتب، اتَّهمك بأنك ليس لديك حسٌّ موسيقيٌّ «داخليٌّ»؛ «كل واحد وموسيقاه الداخلية!» خاصة إذا كان من أهل الإعلام والنفوذ!
- هل لو كتبوا ما يسمُّونه «قصيدة النثر» الكلام متَّصلًا دون تقطيعه على الأسطر، هل يستطيع أحدهم ادِّعاء أنه شعر؟

- وأخيرًا: إننا نحبُّ ونؤيِّد وندعو أن يَكتُبَ من يَكتُبُ ما يشاء، ويبتكر ما يشاء؛ ولكن تسمَّى الأشياء بأسمائها؛ فها هي الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جدًّا، لمَّا اهتمَّ أصحابها بها، أخذت في الانتشار، وتمَّ التقعيد لها، والرسوخ النقديُّ دون مناكفة المجالات الإبداعية الأخرى، أما أصحاب دعوة تشعير النثر، أو تنثير الشعر، فما زالوا منذ عقود كلُّ همِّهم أن يطاولوا الشعراء، فضاع كلُّ مجهودهم؛ إذ النثر لن يصير شعرًا مهما تحذلق المتحذلقون، وحاول النفخ الإعلاميُّ الجاهل عَمْلَقتَهم.



سؤال من سمر الجوراني
ما....صفات...الشاعر
الفذ....في...هذا
الزمن...
وخاصة...الكل...يكتب
الشعر...

جواب استاذ عبد الحميد ضحا

تحياتي للأستاذة سمر الجوراني، وللإجابة عن صفات الشاعر سنحتاج لبعض التفصيل أوجزه كالتالي:مفهوم الشعر:
إن الحديث عن الشِّعر فيه جوانِبُ ظاهرة ومحدَّدة، وجوانبُ أخرى لا يستطيع أحدٌ أن يُعبِّر عنها، أو يحدِّدها؛ فهي في مَجاهل الغَيْبِ.
فالشِّعرُ بمفهومه التقليديِّ: هو الكلام الموزونُ المُقفَّى، الدَّالُّ على معنًى. وعند أصحاب قصيدة التَّفعيلة، أو الشِّعر الحرِّ: هو الكلام الموزونُ على تفعيلة.
هذا من حيثُ الشَّكلُ، أما من حيث المضمونُ، فلقد تحيَّر النُّقَّاد والمختصُّون، والشُّعراء أنفسُهم في تفسير ظاهرة الشِّعر تفسيرًا حاسمًا، وتحديد تعريفٍ مانع جامع لماهيَّة الشِّعر وحقيقته، يَصْطلح عليه الجميع؛ لأنَّ الشِّعر تعبيرٌ عن شعورِ وإحساسِ النَّفس الإنسانيَّة. لذا؛ فإنَّ كلَّ التعريفات والفلسفات التي قِيلت عنه ما هي إلاَّ مفاهيمُ فردية، تُصوِّر وجهةَ نظَرِ صاحبها.
وتدور التعريفاتُ حول:
أنَّ الشعر لغةُ الخيال والعواطف، له صِلَة وُثْقى بكلِّ ما يُسعِد ويَمْنح البهجة والمتعة السريعة، أو الألم العميق للعقل البشريِّ، وليس الشِّعرُ إلاَّ وليدَ الشُّعور، والشعور تأثُّر، وانفعالُ رُؤًى، وأحاسيسُ عاطفيَّة، ووِجدانٌ، ويعبِّر الشاعرُ عن أحاسيسه بصورٍ وألفاظ تكسو التعبير رَوْنقًا خاصًّا، ونغمًا موسيقيًّا ملائمًا.
وأنَّه سطورٌ لامعة في غياهب العقل الباطن، تُمِدُّها بذلك اللَّمعانِ وَمَضاتُ الذِّهن، وإدراكُ العقل الواعي... إلخ.

والشِّعر يتمنَّى أن يُنسَب إليه كلُّ إنسان، قديمًا وحديثًا، وفي كلِّ الأمم والألسنة، حتَّى إن كاتبي النَّثر منهم مَن يُقْحِم نفسه في الشِّعر، ويسعى لِيُقال عنه: شاعر، مع أنَّه لا يستطيع أن يَزِن بَيْتًا، ولا يَفعَل أحدٌ من أهل الشِّعر هذا؛ أن يسعى للانتساب للنثر.
ويَحسُن بنا أن نتحدَّث عن أنواع الشعراء؛ فالشِّعر ليس غايةً في نفسه؛ إنَّما هو وسيلةٌ للتَّعبير عن المشاعر والأحاسيس والعاطفة.
أنواع الشعراء:
أنشد بعضُهم:
الشُّعَرَاءُ فَاعْلَمَـنَّ أَرْبَعَةْ= فَشَاعِرٌ لاَ يُرْتَجَى لِمَنْفَعَةْ
وَشَاعِرٌ يُنْشِدُ وَسْطَ الْمَعْمَعَةْ = وَشَاعِرٌ آخَرُ لاَ يَجْرِي مَعَهْ
وَشَاعِرٌ يُـقَــــالُ خَمْــــرٌ فِي دَعَـــــةْ
 فأجابه آخَرُ:
الشُّعَرَاءُ فَاعْلَمَنَّ أَرْبَعَةْ =فَشَاعِرٌ يَجْرِي وَلا يُجْرَى مَعَهْ
وَشَاعِرٌ يُنْشِدُ وَسْطَ الْمَجْمَعَةْ=وَشَاعِرٌ لا تَشْتَهِي أَنْ تَسْمَعَهْ
وَشَاعِــــــرٌ لا تَسْتَحِي أَنْ تَصْفَعَــــــهْ
وعارَضَهما معروفٌ الرَّصافيُّ، فقال:
الشُّعَرَاءُ فِي الزَّمَانِ أَرْبَعَةْ=فَشَاعِرٌ أَفْكَارُهُ مُبْتَدَعَةْ
وَشَاعِرٌ أَشْعَارُهُ مُتَّبَعَةْ=وَشَاعِرٌ أَقْوَالُهُ مُنْتَزَعَةْ
وَشَاعِــــــــرٌ فِي الشُّعَــــــــرَاءِ إِمَّعَــــــــةْ

إنَّ الشِّعر موهبةٌ من الله تعالى، يَجِد الإنسانُ نفسَه يعبِّرُ عن مشاعره في كلمات موزونة، لها جرس موسيقيٌّ، ولكن لا يستطيع صاحبُ الموهبة- مهما كانت موهبته- أن يصير شاعرًا مُجِيدًا دون دراسة؛ فلا بدَّ أن يتمكَّن من العروض والنحو دراسةً عمَلِيَّة تطبيقيَّة، ويقرأ في النَّقد الأدبي، ويُمْعن النَّظر في الصُّور والأَخْيِلة بقراءة دواوينَ شعريَّةٍ، يتحصَّل منها على حصيلةٍ لُغويَّة جيِّدة، ويحاول تقليدَ الجيِّد منها، وإن ابتكر فبِها ونعمت، ثم يَرسُم لنفسه طريقًا خاصًّا به يميِّزه.
أمَّا مَن يريد اكتساب الموهبة، فيستطيع كتابة الشِّعر في حالةٍ واحدة- في رأيي-: أن يُميِّز بين بحور الشِّعر بنغمة لكلِّ بحر، وحبَّذا لو بدأ ببحرٍ يسير؛ مثل المُتَقارب، أو المتدارك، أو الرَّجَز، أو الكامل، فيَحفَظ نغمةً للبحر، ويحفظ قصائدَ على هذا البحر، ويقرؤها بنغمة البحر، حتَّى تستطيع أذنه تمييزَ هذا البحر، ثم يبدأ بعدها بصياغة كلماتٍ على نغمة البحر، وإن لم يكن لها معنًى؛ المهمُّ وَضْعُ الكلمات في إطار نغمة البحر.
بعد ذلك عليه وَضْع كلماتٍ لها معنًى في إطار نغمة البحر، وهكذا يُطوِّر نفسه، حتى يهتمَّ بالقافية.
إذا وصل المرء إلى هذه المرحلة، يكون قد وضع قدَمَه على أول سُلَّم الشِّعر، واكتسب الموهبة، ويستطيع الصُّعود بدراسة ما ذكَرْناه سابقًا من عَروض ونحوٍ وبلاغة، دراسةً تطبيقيَّة، لا نظريَّة فقط.
 أما إذا لم يستطع المرء قرضَ الشعر، ففي النثر الكفاية، يستطيع من خلاله التعبير عن مشاعره وخواطره.


سؤال من الاستاذ نبيل غيبور
هناك لغط كبير بوصف النثر وقواعده فهل للنثر حدود وخط بياني محدد ....وهل يقل النثر عن الشعر العامودي وبحار قوافيه.....لوسمحت الشرح باستفاضة لأن كثر ينتظرون ردك شاكرا لك حسن الإصغاء....

جواب استاذ عبد عبد الحميد ضحا
مرحبا أستاذ نبيل، سأوجز الأمر مع أنه يحناج لتفصيل بسبب اللغط الدائر حول هذه المسألة: كيف بدأت قصيدة النثر؟ وما مفهومُها؟
بدأ ما يسمَّى قصيدة النثر في لبنان، ولا نعلم تحديدًا من بدأها؛ ولكن المعروف أن مجلة «شعر» تبنَّتها وراحت تدعو لها، فاستجاب بعض الأدباء لهذه الدعوة، التي كان مضمونُها: أن الوزن ليس مشروطًا في الشعر؛ وإنما يمكِن أن نسمِّيَ النثر شعرًا؛ لمجرَّد أن يوجد فيه مضمونٌ معيَّن، أطلقوا على هذا المضمون «الموسيقا الداخلية»، وأخذوا يتمسَّحون في كلِّ كلمة أو أمر يوهم القارئ أن هذا النثر شعرٌ، فأخذوا يكتبون النثر- الذي لا ينتطح فيه عنزان أنه نثر- مقطَّعًا على أسطر مثل كتابة الشعر الحرِّ، ثم طبعوا هذا النثر في كتب وكتبوا على الغِلاف كلمة «شعر»، وأخذوا يُطلقون على نثرهم هذا «قصيدة النثر» أو «الشعر المنثور».
فأحدَثَ ما فعلوه كثيرًا من الالتباس في ذهن القارئ غير المختصِّ، الذي لا يدرك الأوزان، فصاروا يخلطون بينه وبين الشعر الحر الموزون، الذي يبدو ظاهريًّا وكأنه مثلُه، فالكتابةُ مقطَّعة على أسطر كالشعر الحرِّ، لا متَّصلة كالنثر، وتسميته «قصيدة»، وعلى الغِلاف «شعر»، فوَهم كثيرون أن الشعر الحرَّ وقصيدة النثر شيء واحد، عبارة عن نثرٍ لا وزنَ له؛ ولا يلام القارئ العاديُّ على ذلك؛ فإنه ليس من أصحاب الموهبة أو الذائقة الشعرية وموسيقا الشعر.

ما معنى قصيدة النثر؟
هو اسم غريب مركَّب من نقيضين أو نوعين مختلفين؛ فالشعر والنثر كالليل والنهار لا يلتقيان، والكلام العربيُّ إما موزون فيلتحق بالشعر، أو غير موزون فيلتحق بالنثر، وإليك هذه النقاط:
- حقيقة هذه الدعوى تقليل شأن النثر، والبلغاء من الخطباء والكتَّاب والأدباء لم يحاول أحدُهم ادِّعاءَ الشعر مهما بلغ كلامُه من البلاغة
- ليس ثَمَّةَ ما يميِّز الشعرَ عن النثر إلا الموسيقا.
- قصيدة النثر: أين الحدود التي أحاكمه بها؟ سيقولون: الموسيقا الداخلية، إذن؛ من يَحكُم هذه الموسيقا المدَّعاة؟ وما القواعد الحاكمة لها؟ فصار الأمر كما نرى: كلُّ دَعِيٍّ يَكتُب ما يشاء ويَلزق باسمه لقب «الشاعر»! ولو رفضتَ أو نقدت تفاهة ما كتب، اتَّهمك بأنك ليس لديك حسٌّ موسيقيٌّ «داخليٌّ»؛ «كل واحد وموسيقاه الداخلية!» خاصة إذا كان من أهل الإعلام والنفوذ!
- هل لو كتبوا ما يسمُّونه «قصيدة النثر» الكلام متَّصلًا دون تقطيعه على الأسطر، هل يستطيع أحدهم ادِّعاء أنه شعر؟

- وأخيرًا: إننا نحبُّ ونؤيِّد وندعو أن يَكتُبَ من يَكتُبُ ما يشاء، ويبتكر ما يشاء؛ ولكن تسمَّى الأشياء بأسمائها؛ فها هي الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جدًّا، لمَّا اهتمَّ أصحابها بها، أخذت في الانتشار، وتمَّ التقعيد لها، والرسوخ النقديُّ دون مناكفة المجالات الإبداعية الأخرى، أما أصحاب دعوة تشعير النثر، أو تنثير الشعر، فما زالوا منذ عقود كلُّ همِّهم أن يطاولوا الشعراء، فضاع كلُّ مجهودهم؛ إذ النثر لن يصير شعرًا مهما تحذلق المتحذلقون، وحاول النفخ الإعلاميُّ الجاهل عَمْلَقتَهم.






 
Top