GuidePedia

 

المفرجي الحسيني


حــين يــموت البــرسيم والطــماطم

----------------------------------------

ورثت مهنة الفلاحة عن والدي ورثها عن جدي نحن عائلة فلاحيّة في عمق تاريخ أرضنا، ولا نعرف غير الزراعة. الأرض للملاّك. لا يعرف جدي أو أبي الملاّك بل غِلّة الأرض تُسلم أرباحها إلى شخص ما ينوب عن ملاّك الأرض. يمر في الأرض نهر جارٍ يمده الفرات العظيم بالماء العذب. وهكذا منذ زمن بعيد.

كنت مستلقياً على حصيرة من سعف النخيل اخترقت نظراتي الفضاء الممتد أمامي عالياً إلى النجوم المتلألئة المتناثرة في كبد السماء. كان القمر بدراً، نوره الساطع أضاء السماء وغطى بريق النجوم اللامعة. كان صيفاً، والهواء ساكناً بارداً. رغم بريق النجوم والقمر المنير بنوره الذهبي إلا أنني أُحسُّ بالظلام يتسرب ويتغلغل في أعماقي معانقاً بتورده الحزن مضيفاً حزناً جديداً لآلامي وأحزاني التي باتت لا تفارقني وأصبحت جزءاً مني. حتى غيَّرَت ملامح وجهي وازدادت الهالة السوداء حول عيني وازدادت تجاعيد وجهي بالرغم من أني لم أجتز بعد سن الثلاثين. نسيمات خفيفة هبّت وأنا مستلقٍ على حصير الخوص حرّكت معها خوص النخيل الباسق في هذا الجزء من وطني الحزين أصلاً. كان حفيف السعف يحدثني عن ما مضى من الأيام الجميلة عندما كان الماء يتدفق من نهر الفرات عذباً. أما الآن فالأمر قد اختلف. هناك شيء يتحرك في نفسي هناك حوار بين نفسي أُحسّ به وبين شيء مبهم مخيف مطلق. أنظر إلى الليل وأحدث محاوراً المطلق متى ينتهي الليل. الليل لا نهاية له يحاورني المطلق المجهول، كل ليل بعده نهار، يحاورني المطلق المبهم، النهار ليس نتيجة الليل عند استيقاظك يكون النهار... لم أفهم هذا الحوار مع المطلق المبهم، ارتعشت، خفت وارتعش الخوف بداخلي. واقتربت زوجتي مني بهدوء تحاول الدخول بعيني، بداخلي وكانت تراقب عيني اللامعتين ونفسي الحزينة منذ زمن. لم تَرَ مني سوى الظلام المطبق على نفسي وغضب ينحت ملامحه على وجهي، بهدوء سألتني محاولة قتل الصمت الجاثم بقوة على صدري، لماذا هذه الهموم التي تحملها على رأسك؟ أجبتها لأني لم أجد غيرها لأحملها. كان جوابي قاطعاً حدياً. آثرت زوجتي الانسحاب بصمت. بقيت مستلقياً دون حراك على حصيرتي وأضع يداي تحت رأسي. وأنا أشبع نظري بالفضاء المتناهي. سالت دموعي من مقلتي تحرق وجنتي بدموعها الفائرة. ومن خلالها لمحت مالك الأرض.

قلت له من خلال دموعي: لقد ازدادت ملوحة الأرض ، لقد ازدادت الأملاح في الماء والخوف المرعب أن يموت البرسيم والطماطم.

قال لي: وما العمل؟ إن هذا الأمر لا يعنيني بشيء، وليس من شأني.

قلت له: ألست مالك الأرض؟ أجابني: نعم وأنت من استأجرت. قلت له: ماذا تعني بذلك. قال: هذه مقدمة كلامك... لا تؤخر السداد. بقيت لك أشهر قليلة وعليك أن تعرف ذلك.

يا سيدي إن ملوحة الماء تزداد، وتزداد ملوحة الأرض والزرع لا ينمو بالأرض المالحة والزرع معرض للموت. وماذا أفعل. قال لي: إن هذا الأمر يعنيك. لقد وقعت على اتفاقية الإيجار. وماذا تريد أن أعمل لك؟

قلت له: إن الاتفاقية منذ زمن طويل عندما كان الماء صالحاً للزراعة. يا سيدي احفر لنا بئراً جديداً لنسقي منه الزرع. قال لي بحدة: اسمع يا هذا لن أكلف نفسي بشيء، تدبر أمرك وعليك السداد بدون تأخير، يا سيدي إن هذا حرام. إن هذا تعسف. قال لي بحدة وخشونة: سمِّه كما يحلو لك، ادفع بالتي هي أحسن. معك عقد، وهناك محكمة. وتستطيع أن تدخلها من أي باب شئت. يا سيدي إن أطفالي سيموتون من الجوع. قال: ليكن ما يكون حقي ولن أتنازل عنه...

أفقت ولم أكن نائماً والدموع تنزل بغزارة من مقلتي، تخشبت يداي تحت رأسي. اقتربت من زوجتي. ورفعت رأسي بهدوء وحركت يداي لتعيدها إلى وضعها الطبيعي. نظرت إليّ زوجتي ولاحظت ترددي، وخوفي، وغضبي، وحزني. وقد امتزجت جميعها في عيني، قالت لي: بماذا تفكر؟ قلت لها: ماذا تأكلون غداً؟ اليوم ماذا أكلتم؟ أطفالي الخمسة وأصغرهم رضيع. لا حليب عنده في صدر أمه. يؤلمني ويؤرقني صراخ الرضيع. لقد جف صدر أمه ولا قطرة حليب. ومن هناك ناداه طفله بابا أنا جائع. ماذا نأكل هذه الليلة. نهض بعنف. وضع يداه على رأسه محاولاً الهروب من صدى الصوت. يخطو ذهاباً ومجيئاً على حصيرته الخوص. رفع رأسه إلى النخلة الباسقة وقال لأولاده: سنأكل الرطب من هذه النخلة. في الصباح سنأكل من هذه النخلة. والنخلة تبعد عنه مسافة الساقية وسياج الشوك للبستان المجاور.

نام الأطفال من الجوع المؤلم، ورجعت الزوجة إلى زوجها وكان الشرر والغضب يتطاير من عينيه. وشفتاه اليابستان ترتجفان من الغضب نظر إلى السماء محلقاً وإلى النخلة الباسقة أمامه.

تجوّل في باحة داره وهو يردد سأبحث عن عمل آخر لأطعم أطفالي، ولكني لا أعرف إلا الأرض إلا الزراعة لا أملك أي شيء.

مالك الأرض الجشع سيحول الأرض إلى بيوت للأجانب، لقد أفنيت عمري في هذه الأرض وقبلها عمر أبي وجدي وأسلافهم. لقد دبّ اليأس في جسده والحالة تزداد. صَرَخ، وصَرَخ ولكن وحده وانتبه أن صرخاته تضيع هباءً في الهواء الممتد أمامه. ازداد لمعان السماء ببريق خاطف. ثم تحرّك نحو النخلة الباسقة. بلحها مُدلى كفصوص ذهبية على عنق فاتنة حسناء طويلة. واستمر بالمسير واصطدم بالسياج الشائك. وكاد يسقط في النهر الصغير الممتد كسياج للبستان. داهمه الغضب، والحزن والتردد وهو ينادي نفسه ويكلمها لماذا لا نغفوا قليلاً وأجاب نفسه لقد تعبت من النوم ثم قال لنفسه: لماذا لا نسد الجوع بالإغفاء ، وانتفض غاضباً من الهاجس الذي انتابه : الموت ولا الانحناء والتسول. إن لم نمت اليوم فغداً كلنا للزوال والموت لا محال لنمت اليوم من الجوع وظل يرددها مع نفسه مرات ومرات وبلح النخلة معلق أمامه في النخلة في الجانب الآخر. وهي ليست له.. نظر إلى أطفاله. إلى أجسادهم النحيلة وهم في العراء. انتزع نفسه من تسمرها واتجه صوب النخلة. قاذفاً نفسه في النهر الصغير مجتازاً السياج الشوكي. وراح يجمع الرطب المتساقط من النخلة بيده. وداهمه صوت الحارس.. من هناك زحف ببطء نحو النهر الصغير وبعض البلحات بيده اعتصرها عصراً. أنت سارق صاح برأسه هاجس مريع. تأخذ شيئاً ليس لك. أطفالي سيموتون، الموت اليوم أو غداً هو موت واحد وإن تعددّت الأسباب.

لازال يزحف نحو النهر ودخل الماء البارد. ولا زال الرطب بيده وابتل بالماء. لقد سرقت ما تعبت يداك بتكوينه. خرج من النهر واجتاز السياج الشوكي يلهث بخوف وتأنيب ضمير شديد ينتابه. لاقته زوجته وأولاده وكان التمر قد هُرِسَ بيده.

**********

المفرجي الحسيني

حين يموت البرسيم والطماطم

العراق/بغداد

30/6/2021


 
Top