نضال محمود
سُليْمَى . .
أشرقَتْ شمسُ الضحى من خلفِ الأفقِ بيضاءَ نقيّةً بفيضِها و جمَالها السّماوي الأخّاذ لتسكبَ روحُ الحياة من يُنبوعِها الصّافي بَهَجاً وسُروراً في صَدرِ يوم ٍجديدٍ من أيّامِ نيسانَ الرّبيعيّة .
بين أحضانِ الرّيف ينفردُ منزلٌ جميلٌ في هيكلهِ الخارجيّ ، تحيطُ به شُجيراتٌ باسقةٌ وعلى مدخلهِ توزعّت ورودٌ متنوعةٌ يعلوها الجّوري وزنبقٌ يزهو بلونِ أزهارهِ الذهبيّة ، حتى بدتْ وُريقاتَه ُباكيةً تدمعُ بحبّاتِ الندى وقد امتزجَ بريقُها مع نورِ الصّباح .
عبرَتْ خيوطُ الضّوءِ زجاجَ النافدةِ فأيقظ َ وهْجَهُ الدافئُ سُليْمَى تلك الصِّبيّة ذات السّتة عشرَ عاماً من عُمْرِ شجرةِ النخيلِ التي زَرعَها والدُها يوم َوِلادتِها ابتهاجاً بقُدومِها المَيمونِ بعد انتظارٍ طويلْ .
أزاحتْ شعْرَها الأشقرَ المتناثرَ على وجهِهَا ، نظرتْ صوبَ النافذة بعينينِ ناعِستَينِ لترى نورَ الصّباحِ الجديدْ .
وضعَتْ قبضةَ يدِها اليُمنى على جبينِها وأغمضَتْ عَينيْها ثانيةً محاولةً أن تجمعَ أشلاءَ حُلمٍ رأتهُ في ليلتِها لكنّها لم تقْوَ ذاكرتُها على ذلك فأشاحتْ بوجهها نحو حائطِ الغرفة ، ترمقُ إطاراً خشبيّاً بسيطاً يضمّ صورةً من أيّام الأبيضِ والأسودْ ،إذْ أصبحتْ هذه الصّورة يُنبوعُ الحنانِ الذي تنهلهُ وتَستمِدُ منه الأمَلْ .
الأبُ الذي افتقَدتْهُ سُلَيمَى مذْ كانت صغيرةٌ تَحبو في أرجاءِ البيت إلى جانب صِورة والدتِها التي كابدتْ بعدهُ شظَف الحياةِ ثم رحلتْ وهي في منتصَفِ عقْدِها الخامس ، سقطتْ واقفة في حقلتها الصّغيرة مثلُ سَنْديانةِ الجبل ، كانت عاصفةُ القدرِ أقوى من ساقِها ومن متانةِ جذورها فاقتلعَتْها لترتمي مُتوسّدةً ترابَ الأرضِ النديّ بلا حِراكْ .
نهضتْ سُليمى من فراشِها ثمّ وقفتْ خلفَ نافذة غرفتِها المطلّةِ على حديقةِ البيت الرّيفي أزاحَتْ بيدينِ باردتينِ سِتارةً باهتةً بدّلت حرارة الشّمس بعضاً من لونهَا الرّمادي و أخذتْ تشخُصُ بعينينِ دامعتينِ نحو مرقَدِ أمّها المنتصبُ تحتِ شجرةِ النّخيلْ .
راحتْ تحدّثُ روحَ أمّها مُسترجعةً في مُخَيّلتها ذكرى يوم وفاتِها في ربيع نَيْسانَ الماضي تلك الذّكرى التي صارتِ الأصعبُ والأبقَى في حياتِها .
تنهّدتْ بحَسْرةٍ وحُزنٍ كبيْرَينِ ، تحرّكتْ شفَتاها بكلامٍ تلفّهُ غصّةً عميقةً لا تخلُ من الألمْ :
يا أمّي اليومُ هو يومُ رحيلكِ عنّي ، لأبقى يتيمةُ الأبوينِ
ورهينةُ هذا البيتْ ، لقد صَفَعتني الحياةُ بكفّها عندما أمسَتْ يداكِ الطاهرَتانِ تحتَ الثّرى .
رَمَتني الأيامُ بقوسِها وعملَتْ رماحَها في صَدري عندما وقَفتُ أجَابهُ معركةَ الحياةِ وحدي وأنا أمتطي صَهْوةَ الفُراقِ والوحشَةْ .
حَطمّتِ العاصِفةُ حُصنِيَ العالي وارتمَتْ أحجَارَه ُجاثِمةً على أعتابِ القدَرِ عندما ارتفعَ جَدَثكِ المستطيلُ فوق الترابِ يحرسهُ سِياجُ الحقلِ وتُغطيهِ ظلالُ شَجرةِ النخيلِ التي زرعَها والدي في يومٍ خريفيّ شاحبُ بالغيوم ْ.
مزّقتِ الرّيحُ طائرتي الورقيّة التي صنعتُها بنفسي عندما سقط الوشاحُ الذي كان يسترُ مِفرقُ شعرَكِ ..
انطفاتْ عندي شمعةُ الحنان التي توقّدتْ من شعلةِ صدركِ الدافئِ وتبخّرَ رجائي وأملي عندما أغمضَتِ عينيكِ عن نورِ الصّباح ولم تسمَعْ أذناكِ نبضَ قلبي عندما صَرخْتُ باسمك يا أمي .
تعرَى جسدَ روحي ، عندما خرجَتِ الرَوح من جسَدكِ وألبسوكِ آخرَ ثوبٍ أبيضْ
أدركتُ حينَها أنّ الملائكةَ قد حملتْ روحَك الطاهرةَ على أجنحتِها وارتفتْ بكِ محلّقةً فوق السَحَاب إلى رِحَاب الفِردَوس الأعلى .
في أولّ صِبايَ قُصّ جناحايَ بفَقدِكِ ولم أعْدْ قادرةً على أن أطيرَ في سَماء قَدَري ، جلستُ يومَها على سجّادة صلاتِكِ حيث كنت تسجدينَ و تتوسّلينَ بيدينِ طاهرتينِ و تنظرِينَ إلى السّماء بخشوعِ الكهَنةِ وعزيمةُ الأباطرةِ ووَدَاعةُ الصّغار وحلمُ الحكماء
أدركتْ روحُك في عليائِها ما أنا فيه فجاءني وحيُها يهتفُ في مسامعِ قلبي كي أجعلَ من تلك السّجادة ُ بساطَ الرّوحِ الذي يحملُني إلى مقاصدي لأنكِ كنتِ في محرابِ خشوعَكِ تدعينَ لي أن أكونَ ملاَكاً في السّماء بجَناحَيْنِ بيضاوينِ يَحملاني إلى الأقاصِي البعيدةِ لعالمٍ آخرَ يكون فيه شيء من عدالةِ السّماء .
أمّي أيتُها الصخرةُ التي كنتُ أستمدُ منها قُوّتي بعد ضَعْفي وإرادتي بعدَ هزيمتي .
أمّي يا نهرَ الضّياء الذي نهلتْ منه روحي زُلالَها النقيّ وتَفتحّتْ على ضِفافِه أزاهِيرُ عمري الزّاهية
لتهنأ روحَك الطاهرةُ في سَمائِها ويرتاحُ جسدَك ِ وأنتِ طيُّ الترابِ وذكراك ِفي قلبي ما حَيِيتْ
مسَحَتْ سُليْمَى دُموعَها بظاهر كفّها واقترَبتْ من صُورةِ والدِها الذي لم تَرَهُ يوماً قائلةً :
شجرةُ النخيلِ التي زرَعْتَها يومَ مولدي هي ظلّكَ الذي بعثَ في نفسي وما زالَ قوةً خفية انبثقتْ من جُذورِها
أنا سُليمَى ابنةُ أمّها وأبيْها
ارتمَتْ فوق فِراشِها حرينةً تجهشُ بالبكاء .
نضال محمود … ...
30 / 9 / 2020
