بقلم محمد الفضيل جقاوة
مفاهيم ينبغي أن تصحح (18):
.
يعتقد الكثيرون أن المستوى التعليمي إنما انهار بسبب غياب عقوبة الضرب التي كانت سائدة في الثمانينيات وما قبلها, ويسوغون لهذا بأقوال مجهولة القائل منها: العصا لمن عصى, والعصا من الجنة, ويقرأ راغبا أو راهبا ..الخ, فهل فعلا غياب العنف ضد التلميذ هو سبب تدني المستوى العلمي والأخلاقي؟
أولا: دعونا ننظر الى الموضوع نظرة دينية. لا اعتقد أن ثمة دينا حارب العنف بكل أشكاله كما فعلت الشريعة الإسلامية السّمحاء, يقول الله عز و جل في كتابه الكريم: (( محمد رسول الله و الذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم )) الفتح: 29, نقرأ الآية الكريمة ولا نتدبّر معناها وأبعادها, ندعو الى العنف ونلقي بالرحمة في سلة المهملات, ومع ذلك نزعم أننا مسمون, ويقــــــول الحق تبارك وتعالى: (( و لقد كرّمنا بني آدم )) الإسرا: 70, ومن كرّمه الله لا ينبغي اهانته أو كانت الإهانة تحدّيا لله, وقال تعالى مخاطبا الملائكة: (( فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين..)) الحجر: 29, وفي هذه الآية ثلاث لطائف عظيمة, الأولى هي التسوية المباشرة للإنسان من خالقه , والاعتداء عليه بأي شكل من أشكال العنف اعتداء على التّسوية وعلى المسوّي معا, والثانية هي النفخ وفي هذا دلالة على أن في الإنسان نفخة الله الأبدية والاعتداء عليه عدم احترام لهذه النفخة, أما الثالثة فهي أمر الملائكة بالسجود لهذا الإنسان وفي هذا إشارة قوية الى المكانة التي خص الله بها الإنسان .
إذا انتقلنا الى السنة الشريفة وجدنا أن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان رحمة تسعى على قدمين, وأعتقد جازما انه ما حذر من شيء كما حذر من العنف ضد البشر جميعا, لقد تألم حين ضربت أم الفضل الحسين على فخذه يوم بال عليه, وأصدر حكما شرعيّا يقتضي برش بول الغلام, وله في التحذير من العنف أقوال, بل لقد حذّر من العنف ولو كان هزلا, وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (( ما دخل اللين شيئا إلا زانه و ما دخل العنف شيئا إلاّ شانه)) وهو بهذا يقدم لنا قاعدة علمية في منتهى الدقة والخطورة, وقد استشهدت بهذا الحديث في الختام لانسجامه التام مع ما توصل إليه علم النفس الحديث في هذا الشأن.
يرى علماء النفس أن الشخصية البشرية تقوم على ثلاثة ركائز هي: العقل (المجال العقلي) والبدن (المجال الحس حركي) والوجدان (المجال الوجداني), والتربية الناجحة هي التي تلبي لكل مجال حاجاته تبدأ المطالب من المولد الى نهاية سن المراهقة, بل تذهب الدراسات الحديثة الى أن تلبية المطالب تبدأ من المرحلة الجنينية الى نهاية العمر, ويؤكد العلماء أن تلبية الحاجات الوجدانية هي الأهم لما يترتب عليها من نتائج جد وخيمة حال الإهمال, تنعكس سلبا على شخصية الإنسان و تجعل حياته جحيما لا يطاق, فما هي هذه الحاجات؟؟
المقام لا يسمح باستيفائها كلها وسأقتصر على حاجتين لا غير,
أولا: الحاجة الى المحبة والحنان: ومصدر المحبة والحنان هما الوالدان خصوصا ثم باقي أفراد الأسرة وأفراد المجتمع عموما, والحقيقة التي نجهلها هي أن الحب فريضة ربانية واجبة على كل مسلم لكل المسلمين . والسؤال الجوهري هو: ماذا يقع لو حرمنا الأطفال والمراهقين من الحب ؟ يجيبنا علماء النفس و يؤكدون أن المحروم من الحب لا يستسلم أبدا وإنما يسعى الى التعويض والبحث عن مصادر أخرى للحب المفقود, و يؤكدون أن للتعويض مظاهر لا يمكن حصرها لكثرتها و أنها كلها مضرة وخطرة لعلّ أخطرها:
1 ـ الميل الى الجنس الآخر في سن مبكرة, ويكون للأكبر سنّا بفعل خداع اللاشعور, فمراهق محروم من حنان أمه قد يكتب ـ في عامه الرابع عشر ـ رسالة الى أستاذته المتزوجة يخبرها فيها بعشقه الرهيب وبرغبته في زواجها ويطالبها بالطلاق من زوجها..
2 ـ الشذوذ الجنسي ويمثل المحروم دور المفعول به, سواء كانت الفعلة القذرة بين ذكرين أو كانت بين أنثيين, ودقيق الملاحظة يكتشف أن الفعلة القذرة هذه تكون دائما بين المحرومين من دفء الأسرة وحنانها.
3 ـ العزوف عن المجتمع بكل ما يحقق هذا العزوف, ولا شك إن المحذرات هي الوسيلة الأكثر شيوعا وانتشارا.
ثانيا: الحاجة الى الإحساس بالأمان, وهي من الأهمية بمكان, ففاقد الإحساس بالأمان يلجأ الى البحث عن وسائل للدفاع عن نفسه, وهذه الوسائل البديلة كلها خطرة كما يؤكد علماء النفس, وهي متعددة بحيث لا يمكن حصرها أيضا يأتي الكذب في مقدمتها, فهو سلاح فعال جدا ورخيص, الكذب ومشتقاته من نفاق ورياء وتملق وخداع وتمسكن ..الخ. إن الكذب هو توأم للعنف و الاستبداد, لا يحل إلاّ حيث حلاّ, وليس غريبا أن تكون المجتمعات العربية هي لأكذب عالميّا لأنها المجتمعات الأكثر ممارسة للعنف والاستبداد والطبيعة لا تكسر قوانينها.
كما أن المراهق خاصة قد يلجأ الى العنف لتحقيق الإحساس بالأمان, لذا هو يميل الى اقتناء السلاح الأبيض والى اقتناء الحيوانات الشرسة بل والى تعلم الفنون القتالية, بل وتستهويه أفلام العنف التي ينتصر فيها البطل, ذلك أن البطل ليس إلا إسقاط عن نفس متخيلة.
أكتفي بهذا فالمقام لا يسمح بالمزيد, و اعتقد أن في هذا كفاية لمن كان له عقل وبعد نظر. والخلاصة هي أنّ العنف بكل أشكاله ليس إلا جريمة يرتكبها الإنسان بحق أخيه الإنسان وهي دينيّا تحد للخالق الذي كرم, و أما عمليّا فلا يمكن إن نجني من العنف نفعا إن هو إلاّ الضرر المؤكد .
.
بقلم محمد الفضيل جقاوة
25/05/2019
مفاهيم ينبغي أن تصحح (18):
.
يعتقد الكثيرون أن المستوى التعليمي إنما انهار بسبب غياب عقوبة الضرب التي كانت سائدة في الثمانينيات وما قبلها, ويسوغون لهذا بأقوال مجهولة القائل منها: العصا لمن عصى, والعصا من الجنة, ويقرأ راغبا أو راهبا ..الخ, فهل فعلا غياب العنف ضد التلميذ هو سبب تدني المستوى العلمي والأخلاقي؟
أولا: دعونا ننظر الى الموضوع نظرة دينية. لا اعتقد أن ثمة دينا حارب العنف بكل أشكاله كما فعلت الشريعة الإسلامية السّمحاء, يقول الله عز و جل في كتابه الكريم: (( محمد رسول الله و الذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم )) الفتح: 29, نقرأ الآية الكريمة ولا نتدبّر معناها وأبعادها, ندعو الى العنف ونلقي بالرحمة في سلة المهملات, ومع ذلك نزعم أننا مسمون, ويقــــــول الحق تبارك وتعالى: (( و لقد كرّمنا بني آدم )) الإسرا: 70, ومن كرّمه الله لا ينبغي اهانته أو كانت الإهانة تحدّيا لله, وقال تعالى مخاطبا الملائكة: (( فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين..)) الحجر: 29, وفي هذه الآية ثلاث لطائف عظيمة, الأولى هي التسوية المباشرة للإنسان من خالقه , والاعتداء عليه بأي شكل من أشكال العنف اعتداء على التّسوية وعلى المسوّي معا, والثانية هي النفخ وفي هذا دلالة على أن في الإنسان نفخة الله الأبدية والاعتداء عليه عدم احترام لهذه النفخة, أما الثالثة فهي أمر الملائكة بالسجود لهذا الإنسان وفي هذا إشارة قوية الى المكانة التي خص الله بها الإنسان .
إذا انتقلنا الى السنة الشريفة وجدنا أن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان رحمة تسعى على قدمين, وأعتقد جازما انه ما حذر من شيء كما حذر من العنف ضد البشر جميعا, لقد تألم حين ضربت أم الفضل الحسين على فخذه يوم بال عليه, وأصدر حكما شرعيّا يقتضي برش بول الغلام, وله في التحذير من العنف أقوال, بل لقد حذّر من العنف ولو كان هزلا, وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (( ما دخل اللين شيئا إلا زانه و ما دخل العنف شيئا إلاّ شانه)) وهو بهذا يقدم لنا قاعدة علمية في منتهى الدقة والخطورة, وقد استشهدت بهذا الحديث في الختام لانسجامه التام مع ما توصل إليه علم النفس الحديث في هذا الشأن.
يرى علماء النفس أن الشخصية البشرية تقوم على ثلاثة ركائز هي: العقل (المجال العقلي) والبدن (المجال الحس حركي) والوجدان (المجال الوجداني), والتربية الناجحة هي التي تلبي لكل مجال حاجاته تبدأ المطالب من المولد الى نهاية سن المراهقة, بل تذهب الدراسات الحديثة الى أن تلبية المطالب تبدأ من المرحلة الجنينية الى نهاية العمر, ويؤكد العلماء أن تلبية الحاجات الوجدانية هي الأهم لما يترتب عليها من نتائج جد وخيمة حال الإهمال, تنعكس سلبا على شخصية الإنسان و تجعل حياته جحيما لا يطاق, فما هي هذه الحاجات؟؟
المقام لا يسمح باستيفائها كلها وسأقتصر على حاجتين لا غير,
أولا: الحاجة الى المحبة والحنان: ومصدر المحبة والحنان هما الوالدان خصوصا ثم باقي أفراد الأسرة وأفراد المجتمع عموما, والحقيقة التي نجهلها هي أن الحب فريضة ربانية واجبة على كل مسلم لكل المسلمين . والسؤال الجوهري هو: ماذا يقع لو حرمنا الأطفال والمراهقين من الحب ؟ يجيبنا علماء النفس و يؤكدون أن المحروم من الحب لا يستسلم أبدا وإنما يسعى الى التعويض والبحث عن مصادر أخرى للحب المفقود, و يؤكدون أن للتعويض مظاهر لا يمكن حصرها لكثرتها و أنها كلها مضرة وخطرة لعلّ أخطرها:
1 ـ الميل الى الجنس الآخر في سن مبكرة, ويكون للأكبر سنّا بفعل خداع اللاشعور, فمراهق محروم من حنان أمه قد يكتب ـ في عامه الرابع عشر ـ رسالة الى أستاذته المتزوجة يخبرها فيها بعشقه الرهيب وبرغبته في زواجها ويطالبها بالطلاق من زوجها..
2 ـ الشذوذ الجنسي ويمثل المحروم دور المفعول به, سواء كانت الفعلة القذرة بين ذكرين أو كانت بين أنثيين, ودقيق الملاحظة يكتشف أن الفعلة القذرة هذه تكون دائما بين المحرومين من دفء الأسرة وحنانها.
3 ـ العزوف عن المجتمع بكل ما يحقق هذا العزوف, ولا شك إن المحذرات هي الوسيلة الأكثر شيوعا وانتشارا.
ثانيا: الحاجة الى الإحساس بالأمان, وهي من الأهمية بمكان, ففاقد الإحساس بالأمان يلجأ الى البحث عن وسائل للدفاع عن نفسه, وهذه الوسائل البديلة كلها خطرة كما يؤكد علماء النفس, وهي متعددة بحيث لا يمكن حصرها أيضا يأتي الكذب في مقدمتها, فهو سلاح فعال جدا ورخيص, الكذب ومشتقاته من نفاق ورياء وتملق وخداع وتمسكن ..الخ. إن الكذب هو توأم للعنف و الاستبداد, لا يحل إلاّ حيث حلاّ, وليس غريبا أن تكون المجتمعات العربية هي لأكذب عالميّا لأنها المجتمعات الأكثر ممارسة للعنف والاستبداد والطبيعة لا تكسر قوانينها.
كما أن المراهق خاصة قد يلجأ الى العنف لتحقيق الإحساس بالأمان, لذا هو يميل الى اقتناء السلاح الأبيض والى اقتناء الحيوانات الشرسة بل والى تعلم الفنون القتالية, بل وتستهويه أفلام العنف التي ينتصر فيها البطل, ذلك أن البطل ليس إلا إسقاط عن نفس متخيلة.
أكتفي بهذا فالمقام لا يسمح بالمزيد, و اعتقد أن في هذا كفاية لمن كان له عقل وبعد نظر. والخلاصة هي أنّ العنف بكل أشكاله ليس إلا جريمة يرتكبها الإنسان بحق أخيه الإنسان وهي دينيّا تحد للخالق الذي كرم, و أما عمليّا فلا يمكن إن نجني من العنف نفعا إن هو إلاّ الضرر المؤكد .
.
بقلم محمد الفضيل جقاوة
25/05/2019