قراءة انطباعية لنص (نقوش في ذاكرة العقيق) لعلي سلمان الموسوي
نقوش في ذاكرة العقيق..
من منا لم تقتله نوبات الصمت
حين كنا حبات عشق
نلهو عند سلالم المطر
ويبقى بوح القيود
وليل القلوب الباسقات
كنخلات مدينتي المثمرات
بلا قيود..
في سبيل الغرض
ليتني كنت أنتِ
لتهزني ذات الأرض
التي تدور بك،
وأختبأ فيك بلا غطاء
أعود بك..
مخفورةً بين أضلعي
خارج قوانين الزلزال،
قلت..
وأي دلال؟؟
تحملني بقاع الخيال
من أرض السواد
لرغبة الفؤاد..
لا سهاد بعد الآن
لا سهاد..
دعي الكون يجري للفناء
أغوص فيك غامضاً
في ليلتي..
انطبقتْ شفتيّ السماء
ونطق القلبُ الملثّمُ
والحبلُ المتين
تمرجحتْ به زهرةٌ رانيةٌ
علقتْ بي..،
ما كان للوردِ
أن يدمع ذابلاً
حاملاً..
أولَ روحٍ عشقتْ
وشوق َ سحابةٍ صهلتْ
.......................
العنوان:
نقوش في ذاكرة العقيق..
نقوش: (اسم) جمع نَقْش، مصدر نَقَشَ. والنقش: الأثر. والنقش: ما يُحفَر أو يُرسَم على حجر أو مبان أو أخشاب... من صور وزخرفة وألوان وغيرها.
في ذاكرة: الذاكرة: قدرة النفس على الاحتفاظ بالتجارب السابقة واستعادتها. أو هي حافظة المعلومات في الذهن.
العقيق: نوع من الأحجار الكريمة. اشتهر منه اليماني. وهناك روايات تحكي عن فضيلة التّختّم به. وهناك أنواع من العقيق غير اليماني.. وللعقيق عموما أشكال وألوان مختلفة.. ومادته الأساسية هي السيليكا. وللعقيق حضور عبر التاريخ عند الشعوب والحضارات المختلفة.
وقد مّت بنا أنواع من النقوش على حجر العقيق بعضها أجزاء من آيات قرآنية أو اسماء الله الحسنى أو طلاسم ونقوش وما يتعلق بالأمور الغيبية.
هنا لم يتسنى لنا بالطبع معرفة أي نقوش مما ذكرنا أو لم نذكر منقوشة على ذاكرة العقيق؛ قصدها الشاعر... لكننا نستطيع التّكهُّن بأن هذه النقوش على درجة من الأهمية والرقي لكونها حُفرَت على ذاكرة حجر كريم وليس حجر عادي.
وبطيعة الحال التعبير الشعري من المجاز، وهي استعارة جميلة وذكية من قبل الشاعر.
اللغة:
امتازت قصيدة النثر (نقوش في ذاكرة العقيق..) بشكل عام بسهولة المفردة وسلاسة اللفظ ووضوح العبارة وانسيابيتها، وفصاحتها. محققة شروط القصيدة النثرية؛ بالمحافظة على وحدتها وموضوعيتها وترابطها كمنظومة واحدة تحفل بالعديد من الصور الابداعية والمساحات الإشعاعية، مع إمكان إعادة الخلق والتشكيل من جديد.
الأسلوب:
نقوش في ذاكرة العقيق..
تجربة مضيئة لعلي سلمان الموسوي، جاءت بأُسلوب السهل الممتنع، بمفردة متداولة، وجملة متاحة، وصياغة سلسة، وانسيابية واضحة، باستثناء مفردتين بحاجة الى التفسير وهما (مخفورة، و رانية).
المَخْفور: اسم مفعول من خَفَرَ. جاءوا به مخفوراً: محاط بحراسة.
فقوله: (مخفورة بين أضلعي) بمعنى محروسة بين أضلعي... تعبير جميل جدا.
رانية في قاموس معاني الأسماء: اسم علم مؤنث عربي، من الفعل رنا: أدام النظر بسكون الطرف. او هي الغالبة المتصدية، من الفعل ران، أي غلب، وقالوا كل غلبة رَين. ومنه قوله تعالى ((كلّا بلْ رانَ على قُلُوبِهِمْ ما كانوا يكسبون)) المطففين 14. وأرى أن الشاعر قصد المعنى الأخير من كلمة رانية. وعلى العموم فهو من الأسماء الجميلة والقريبة من القلب.
لهذا فقد أجاد الشاعر كثيرا في إيراد هذا الاسم الذي استخدمه واصفاً، فمنح النص ما فيه من جمال وعذوبة وموسيقى ناعمة.
الانطباع العام:
بعد العنوان استهّلّ الشاعر نصه ببث تساؤل: (مَن منا لم تقتله نوبات الصمت)، ثم ما لبث أن ينتقل في حديثه عن حزمة من النوازع النفسية، والانفعالات الوجدانية، بعد ان قدم صورة معززة للاستفهام (حين كنا حبات عشق، نلهو عند سلالم المطر)..
( ويبقى بوح القيود، وليل القلوب الباسقات، كنخلات مدينتي المثمرات، بلا قيود..) هنا بدأت النقلة الأولى نحو حديث النفس واستدراج المشاعر وإعمال الذاكرة.. وقد شبه الشاعر قلبه وقلب حبيبه في اليل بنخيل مدينته الباسق العالي والمرتفع والمثمر لكن (بلا قيود..) عبارة تتيح للذهن الانطلاق نحو فضاءات من التأمل.. فالقيود كثيرة، وأية قيود قد تحد أو تعرقل عملية الإثمار تلك التي قصدها الشاعر.
ثم تمنى ان يكون (هو؛ هي)؛ ليهتز كما هي في ذات المكان..
ثم استحسن الاختباء فيها (وأختبئ فيك بلا غطاء) ولكن بلا غطاء..! ولِمَ الغطاء مع هذا الانسجام بل الانصهار ببعض (أعود بك..، مخفورة بين أضلعي).. (خارج قوانين الزلزال) بمعنى خارج قوانين الطبيعة بكل طاقاتها المرعبة واهتزازاتها وارهاصاتها.
(قلت..، وأي دلال؟؟ ، تحملني بقاع الخيال، من أرض السواد، لرغبة الفؤاد) هنا الشاعر يخاطب نفسه، فيغبطها على ماهي عليه من دلال الحبيب المليء بالخيال من العراق لما يرغب القلب)
(لا سهاد بعد الآن ، لا سهاد..، دعي الكون يجري للفناء، أغوص فيك غامضاً) يقول الشاعر : ما دمنا معا فلا سهر ولا قلق ولا أرق بعد الآن، وقد كرر قول (لا سهاد) اصراراً منه وتأكيداً، ثم يخاطبها: دعي الكون بكل ما فيه من معان يجري وإن كان الى النهاية، لا يهم ما دمت منصرا وغائصاً فيك.
(في ليلتي..، انطبقتْ شفتا السماء، ونطق القلبُ الملثمُ، والحبلُ المتين، تمرجحت به زهرة رانية). يتخيل الشاعر في ليلته كيف صمتتْ السماء وهي مصدر الوحي؛ لتراقب هذا المشهد في ذهول وتأمل. عند ذلك تكلم القلب الملثّم، بمعنى القلب الذي لم يسفر عن وجهه ولم يكشف حقيقته قبل تلك الليلة الموعودة. وهو متين بما يحمله من حب صادق.
والتمرجح: هو التّمايل يميناً وشمالا،ً زهرة، بقصد الفتاة الناضجة المزهرة، التي تتأمل المشهد بسكون الطرف، أو هي الغالبة المتصدية.
(علقتْ بي..،) علقتْ غير تعلّقتْ.. وسبق وأن أخبرنا الشاعر بتعلقهما ببعض حتى الذوبان.
(ما كان للورد، أن يدمع ذابلاً) هنا يستغرب الشاعر كيف ندى الحب من مآقي الحبيب عشقاً، من شدة الوله بدت وكأنها وردة ذابلة.
حاملاً.. أول روحٍ عشقتْ، وشوق سحابةٍ صهلتْ) هنا يتحد مرة أخرى الحامل والمحمول، فتلتقي الروح مع السحابة، ليلتقي العشق مع الصهيل) فيختتم الشاعر قصيدته بنتيجة وخاتمة تساءل عنها في مستهل : (مَن منا لم تقتله نوبات الصمت) ليجيبنا