رفع ساقه .. تبول فوق كومة الكتب ..
رآه من وراء زجاج النافذة ، حاول طرده فلم يستطع ، اقترب الكلب من الكتب التي تبول فوقها ، لعق بقايا الغبار التي وجدها على بعض الأغلفة ، تأمل الكومة ، لقد خذلته ، إنها ليست كومة لحم وعظام ، فتركها .
أكره هذا الكلب ، انه كلب الجيران ،حاول مرة إطلاق الرصاص عليه ، لكن خاف من المفسدين ، هؤلاء الذين يوشون للشرطة عن السلاح غير المرخص ، وسلاحه قديم ، أهداه له يهودي صاحب مزرعة عندما كان يعمل عنده ، وأكد له أن هذا المسدس حصل عليه من ضابط شرطة ، كان قد استولى على أسلحة غير مرخصة من احد البيوت العربية .
قبل أسبوع قرر أن يتبرع بمكتبته الصغيرة التي يعتز بها ، لأن أكثر الكتب ورثهما عن والده ، وقد حافظ عليهم وقام بتجليدهما في مطبعة في مدينة نابلس ، يومها غضبت زوجته وجن جنونها ، عندما سمعت بالمبلغ الذي دفعه زوجها لقاء تجليدهما ، واتهمته بالجنون والتبذير .
قرر أن يتبرع بهما لأحدى المكتبات العامة في البلدة ، أتصل مع المسؤول عن المكتبة وأبلغه عن نيته التبرع بمكتبته ، رحب المسؤول ببرود ، ووعده بان يأتي ويأخذ الكتب قريباً .
بعد أن توفيت زوجته وساءت صحته ، قرر أولاده أن يستولوا على البيت بحجة أن الصعود على الدرج والنزول عملية شاقة ومتعبة ومرهقة ، وتخفيفاً عليه وعلى الأبناء والأحفاد الذين يأتون لزيارته ، عليه الهبوط الى الطابق الأرضي ، أو بالأحرى الحجرة التي يرافقها ذلك المطبخ الضيق الذي كان يكرهه ، بناه لزوجته بعد أن أصرت على أن يبني لها زاوية للطبخات الشعبية والتي يمنعها المطبخ الحديث من التحرك فيه والطبخ على هواها ، لقد استقلت زوجته في هذه الزاوية ، وأخذت تمارس هواية الطبخ والتنقل بيت الطناجر بحرية .
وافق أن ينزل إلى الطابق السفلي على مضض، لأن الأبواب مقفلة على قرار الأبناء ، لقد أقفل أولاده أبواب الحياة ولم يعد أمامه الا الصمت والرضوخ والأذعان الجبان وعدم النقاش معهم.
مر أسبوع وما زالت كومة الكتب أمامه ، وأضيف على الشرفة الصغيرة بعض من أثاثه القديم ، هاهي زوجة ابنه تحمل بقاياه من الطابق العلوي ، تلملم ثيابه وصوره وأغراضه وترمي بهم على الشرفة أمامه ، حاول أن يناديها ، أن يقول لها أن تكف عن تجميع صوره وثيابه بهذه الطريقة ، إنها تذكره بهؤلاء الذي يكومون الحطب في الهند لإحراق جثة ميت، انه لم يمت، لماذا يستعجلون رحيله بهذه الطريقة الفظة ؟!!
لم يأت مسؤول المكتبة العامة لأخذ الكتب ، مر الأسبوع الثاني وكومة الكتب على الشرفة تنتظر ، حتماً تضررت من الطقس ، اتصل مرة أخرى ، لم يرد عليه أحد .
وزع أولاده أثاث بيته ، لا يعرف أين وزع والى أين وصل به المطاف . يعرف أن كل يوم تتناقص القطع وتختفي من أمامه ، لا عمل له الآن الا المراقبة والهمس خجلاً من ذكرياته الملتصقة بالأثاث الراحل ، أو الهارب من بين أصابعه ، انه يراقب من خلف زجاج النافذة ، العالم انحصر في ذلك المربع المغلف بالزجاج ، لم يتوقع يوماً أن يصبح ذلك الأسير الحزين ، خلف زجاج جامد يفرز الانتظار الصامت ، و كلما نقصت قطعة يشعر أن مرحلة من عمره اقتطعت وطارت في الهواء ، أو زحفت تلك القطعة إلى واد مجهول يغرق في نسيانها ، حتى لا تذكره بالدفء الذي يتخلى عنه الآن رويداً رويداً.
فرغت الشرفة من الأثاث وثيابه ،لا أحد يقول له أين وزعت ،يتصرفون كأنه غير موجود ، ولم يكن يوماً يملك هذا الأثاث .
صوره توزعت بين اولاده ، هكذا قالوا له ، لم يصدقهم ، شعر أنهم مزقوا الصور والقوا بها في النفايات .
لم تبق الا كومة الكتب التي بدأت تثير أعصاب زوجة ابنه ، فكلما تراها تصرخ وتردد :
- كيف بدي أنظف الشرفة ، شو أعمل بكوم هالهّم ، احكي معهم حتى يخلصوني من منظرهم .
لا يجيبها ... شعر أن هذه الكومة تغيظها ..فرح لأن هناك شيئاً يستفزها .
أحست زوجة الابن أن والد زوجها يراقب كل شيء من وراء النافذة ، له عين خفية لا تراها ، ولكن هو يراها بكامل تفاصيل تحركاتها ، و يعرف بأنها لا تطيق كومة الكتب ، لأنها تشعر ان البيت ملكها الآن بالطابق العلوي والأرضي ، وهذه الكومة تحتل مساحة من نفوذها ، وتذكرها أنها ملك الرجل الجالس أمامها ومازال يتنفس .
نظر من وراء زجاج النافذة ، وجد ان جزءاً من كومة الكتب قد اختفى ، ما معنى هذا ومتى ؟ يجوز عندما نام جاء احدهم واخذ بعض الكتب ، يهمه أن يعرف إلى أين وصلت كتب والده ..
كلما أفاق من نومه وجد أن جزءا من الكتب يختفى ، قرر أن يتصنع النوم حتى يرى الأيدي التي تأخذ هذه الكتب .
انه يراها ، تتسلل .. تنظر إلى النافذة ، تطمئن انه نائماً ، ثم تأخذ كمية من الكتب ، هل تقرأ ؟ لا يظن .. انها غبية ..!!
سألها وهي تقدم له وجبة الغذاء عن الكتب التي تأخذها ، تلعثمت ..ثم حملت الرغيف وقالت بهدوء انثى حصلت على كل شيء :
- جيراننا اشتروا فرن على حطب ، وبنستعمل الكتب لإشعال الحطب . لو تشوف كيف النار بتكون طقطق طق ..!!
شعر أن عمره يشتعل أمامه ، انه الآن مثل جثة الهندي التي حرقت ببطء، ولم يبق سوى الرماد ...!!
